منذ استقالتي من القضاء والتحاقي بمهنة المحاماة، وما بين موقف وآخر، ووقت ووقت، تراودني الخواطر التي أرى ملاءمة جمعها في مقال حول هذا الموضوع. واليوم وأنا أشهد تزايد أعداد القضاة الذين يغادرون وظيفة القضاء، ويتجهون إلى العمل في المحاماة، أصبح الدافع أقوى لكتابة مقال مثل هذا. ولأن هذه الخواطر تكاد تكون مبعثرة متنوعة، لا يجمعها رابط سوى أنها شجون قاض منتقل من القضاء الجالس إلى القضاء الواقف – كما يقال -، لذا سأنثر هذه الخواطر كما هي في بعثرتها على عدة فقرات، وليس الباعث وراء كتابتها ومشاركة القارئ العزيز فيها؛ إلا رجاء أن يكون فيها ما يفيد. القاضي نفسه حين يكون محامياً، تختلف رؤيته، ويصبح همّه رفع الظلم عن موكله، ويشتد امتعاضه من ظلم أو مخالفة القاضي في حقه، ولا يبقى عنده مكان للأعذار والتبريرات التي كان بالأمس يبالغ فيها للدفاع عن زميله القاضي حين يظلم أو يخطئ اختلاف الشعور بين كرسي القضاء والمحاماة: بعض القضاة حين يباشر الجلوس على كرسي القضاة، يختلط عنده الأمر بين الحفاظ على هيبة القضاء، وبين تجاوز ذلك إلى الوقوع في التعامل مع الناس باستعلاء أو شعور بالفوقية. ويزداد هذا الشعور لديهم أثناء الجلوس على كرسي القضاء وقت الدوام الرسمي، لأن هذه القناعة يضاف إليها كثرة ضغط العمل، وتنوع أصناف ومستويات الناس الذين يمرون عليه في مكتبه، وبعضهم قد يستفز القاضي بسوء خلقه، أو بظهور علامات الاحتيال والكيد عليه. فترى الغالب على حال القاضي في تعامله؛ الجفاء والشدة، حتى يصير ذلك مع مضي السنوات كالطابع على شخصيته. وتزداد الفجوة بين القاضي وبين الناس، حتى خارج المحكمة، ويقع بعض القضاة في عزلة يعتقد أنها هي الأسلم حتى لا يخالط الناس فيتعرض للحرج حين يجد أحداً منهم واقفاً أمامه طرفاً في دعوى. ولا يكاد يخطر على بال هذا القاضي أنه قد يغادر يوماً هذا الكرسي، قبل الموعد المقرر عادة بالتقاعد، بل تتغير قناعته ويتجه للعمل في المحاماة. عند ذلك يجد نفسه في مأزق كبير، لأنه يصعب عليه الانتقال من الشخصية التي تقمصها عدة سنوات، بطابع الجفاء والشدة، إلى شخصية ودودة اجتماعية تتسع للناس، وتقترب منهم أكثر. وتختلف أحوال القضاة المنخرطين في المحاماة في التعامل مع هذه المشكلة، فمنهم من يسهل عليه التحول من شخصية إلى أخرى، لما أصبحت تقتضيه الحال وتحت حكم الحاجة والمصلحة، ومنهم من يصبح داخل نفسه يرى هذا السلوك الجديد بمثابة المذلة والهوان، ويعتقد أن سلوكه الجاف القديم كان هو العزة والرفعة!! كما تختلف أيضاً ردود أفعال الناس الذين يرون هذا القاضي كيف كان أيام القضاء، وكيف تحول حين العمل في المحاماة. وكلما كان هذا القاضي أكثر قسوة وغلظة وقت القضاء، كلما صعب عليه أكثر هذا التحول، وازداد مقت الناس له وعدم تقبلهم لتحوله الذي ينظرون إليه أنه لدواعي المصلحة، لا سجية وطبعاً من حسن الخلق. لهذا فإني أوصي بشدة كل قاض أن يخفف من جفوته، وتقطيب حواجبه، وأن يعوّد نفسه استيعاب الناس والاقتراب منهم، واللطف في معاملتهم، احتساب الأجر من الله أولاً، ثم حتى لا يقع في هذا المأزق يوماً. اختلاف القناعات والرؤية بين القضاء والمحاماة.. حين يكون القاضي جالساً على كرسي القضاء، فإنه يُمثّل قناعات القضاة، وينطلق من منطلقاتهم، ويتأثر بالثقافة السائدة في صفوفهم، لأن مجتمعات القضاة غالباً صغيرة، ودوائرها مغلقة، ينقل بعضهم عن بعض، ويتأثر أحدهم بأفراد (شلته) ويكادون يتفقون بينهم على المبالغة في تهويل (هيبة القضاء) و(استقلال القضاء) و(حصانة القاضي) حتى يصلوا بهذه المفاهيم الصحيحة في أصلها، إلى مستويات غير مقبولة أحياناً، فتغدو (هيبة القضاء) غطرسة، و(استقلال القضاء) تمرداً، و(حصانة القاضي) شيئاً آخر غير الحصانة. وكلما ازدادت مبالغة القضاة في هذه القناعات الخاطئة، أصبح الواحد يأنف جداً أن ينقاد للحق الذي ينبهه أحد الخصوم أو المحامين إليه، ويستثقل كثيراً أي توجيه له من أحد مراجعه القضائية، للعدول عن خطأ، أو الالتزام بنظام خالفه. وكم سمعت ُ كثيراً من بعض القضاة قولهم عن استجابة رئيس المحكمة لشكوى مشتك عليهم: (إن هذا يزيد جرأة الناس على القضاة ويحط هيبتهم) !!. وفي ذات السياق، فإن فئة من القضاة يتعاطفون مع بعضهم، ويغطي بعضهم على بعض في مخالفته أو خطئه، وإذا ما تم التحقيق مع أحدهم أشاعوا في صفوفهم أن هذا التحقيق ليس سوى (مؤامرة) على فضيلته، وأنه إنما حُقّق معه لنزاهته ونُصحه!!. ووالله لقد وقفت على العديد من القضايا التي ارتكب فيها بعض القضاة مخالفات جسيمة، وحين يُحقق معه، يقال عنه مثل هذه الأقوال، ويدافع عنه البعض بمثل هذا التبرير. شريحة واسعة من القضاة، لا ينظرون إلى جانب الظلم الذي وقع على المتضرر، ولا الإساءة التي نالت المشتكي، ويبادرون بالرفض للتحقيق مع القاضي، والدفاع عنه، والتبرير لفعله، دون أن يطلعوا أصلاً على مخالفاته محل التحقيق، حمية في غير محلها. ومن خلال بعض التجارب التي مرّت بي شخصياً، فإنه مهما بلغ خطأ القاضي، الذي قد يصل لدرجة الجريمة منه، إلا أنه لا يخلو من تعاطف الزملاء، وغضبهم وكراهيتهم لأي إجراء نظامي يتخذ لمحاسبته، وقد يصل للتشنيع على من أمر أو ساهم في هذا الإجراء. أعرف تماماً أن مقالي هذا سيكون له نصيب كبير من الرفض في تلك الأوساط، ولكن أنا الذي كنت وما زلت أنادي بحقوق قضاتنا الفضلاء، وأُسهِم في الدفاع عن القضاء والقضاة الشرفاء، أنا الذي اليوم أسلط الضوء على ممارسة واقعية موجودة داخل الجسم القضائي، وليس عندي حكم واضح قاطع ٌعلى مدى انتشارها أو نسبتها في أوساط القضاة، لكنها حقيقية، واقعية مشاهدة، تستدعي الوقوف أمامها، وتأملها، والتنبيه على خطورتها وخطئها، لأنها تصدر عن حماة العدل، ورجال القضاء الذين يجب عليهم البدء بأنفسهم، فلا يحكموا دون بينة، ولا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يقبلوا أي خبر دون تثبت. أما الفرق بين قناعة القاضي والمحامي في هذه الأمور؛ فالقاضي نفسه حين يكون محامياً، تختلف رؤيته، ويصبح همه رفع الظلم عن موكله، ويشتد امتعاضه من ظلم أو مخالفة القاضي في حقه، ولا يبقى عنده مكان للأعذار والتبريرات التي كان بالأمس يبالغ فيها للدفاع عن زميله القاضي حين يظلم أو يخطئ. والوسط مطلوب في كلا الحالين، والعدل مأمور به في كلا الموقفين. والحمد لله أولاً وآخراً.