لدينا ارتباط عضوي بين النشاط الثقافي، وبين فكر التزمت والانغلاق، اعتدنا وألفنا ظهوره بكثافة متزامناً مع الأنشطة الثقافية في ميادين الكر والفر وسجالات الشد والجذب.. قد نفسره بأنه نوع من المقاومة والصراع على السلطة الفكرية والهيمنة على الأدمغة؛ بحيث يصبح ذلك الفكر المنغلق مهددا بحزم الضوء وأطيافه التي تدخل المكان على أجنحة الثقافة وتسلب منه هيمنته وسطوته، أم هو فوبيا الصحراوي القديم من الغرباء الذين يحملون في أعطافهم الشر؟ أو قد تكون كلها مجتمعة، ولكنها على كل حال باتت أحد فصول المسرحية الثقافية المشاركة في النص الدرامي بدور رئيس. وطبعا يظل بين هذا كله ملف المرأة هو أكثر الملفات المتورمة القابلة للانفجار، ويعود ما يطلقون عليه مصطلح (الاختلاط) يتصدر أجندة من ينصبون أنفسهم حراسا على مروءة المجتمع وغيرته، وبعد دورات متصلة من السجال حول مصطلح الاختلاط في السنوات الأخيرة (كانت ميادينه الصحف والمجالس الخاصة ووسائل الاتصال الاجتماعي) استطاعت تلك السجالات أن تضيف للمدونة الفقهية المحلية وعيا خاصا مستنيرا، واستطاع أيضا المجتمع بعدها أن يكوّن محتوى فكريا قادرا على أن يفصل ويفرز بين معنى الاختلاط والخلوة، وقد أصّل لهذا الموضوع العديد من علماء الشريعة الأفاضل وعلى رأسهم وزير العدل، وساندهم في هذا الصيرورة الزمنية المتبدلة المتطورة، ووضع المرأة في جميع دول العالم الإسلامي، لأننا لسنا بدعا من الدول نشذ ونخالف. وقبل هذا كله كان للإرادة السياسية العليا يد جليلة خضراء في دعم هذا التوجه وبلورته، حتى توجت مرحلة السجالات بوجود المعلم العلمي والحضاري المتمثل في جامعة كاوست العالمية فوق أرضنا، وبدخول باقة من نساء الوطن مجلس الشوري، حاضرات مضيئات متألقات في مواطن صناعة القرار وتحت قبة المجلس وليس كيانا غامضا يقضون عنه وبدلا منه، وتمرر له الأوراق البائتة التي حسم أمرها. أماكن تواجدهن داخل القاعة تحسم صراعا تاريخيا ضد فكر مغلق مطوق بالغرائزية عاجز عن أن يكتشف الأبعاد الإنسانية في امرأة مكلفة شرعيا مكتملة الإنسانية، فكر لايعي أن الغياب عن المشهد وتكريس قوانين(الحرملك) هو أول مراحل هضم الحقوق والاستئثار بها. بالطبع داخل هذه المسيرة المتألقة لابد أن يكون هناك انكفاءات وكبوات، ومع الأسف أن يكون الانكفاء من مؤسسة ثقافية كان المتوقع منها أن تقود الفكر التنويري وتبادر له وتجذر أشجاره في المكان، ولكن مع الأسف ما هو متوقع منها لم يحدث.. فخلال الأنشطة الثقافية لمهرجان الجنادرية.. وأمام حشود من زوار ومثقفي العالم.. كانت المرأة تبعد وتُقصى عن قاعات المحاضرات الرئيسة خلف أستار وحجب بشكل غير مفهوم أو مبرر ومن مؤسسة أوكل لها إشراع بوابات الوعي المستقبلي وتحقيق جزء من سياسات القيادة وخطط التنمية الثقافية، في منظر مؤلم يتقاطع مع صورة الشوريات الحاضرات بشكل مهيب جليل في مواطن صناعة القرار.. تلك الصورة التي يتناقلها الإعلام ونباهي بها العالم. هذه الازدواجية التي كانت في أنشطة الجنادرية تعمل على إعادة أراض محررة لفكر التخلف والظلمة مرة أخرى، فهل الجنادرية مؤسسة لاتتحمل مسؤوليتها الثقافية في بث وعي ايجابي تجاه النساء الحاضرات والمشاركات؟ ولاتستطيع أن تبرزهن كجزء فاعل في المسيرة الحضارية للوطن يعكسن للعالم ولمثقفيه طبيعة الحراك الحضاري لدينا؟ هل هي لاتتناغم مع وقع المسيرة التي تخوض حربا صعبة مع هذا الفكر الظلامي المتغول سواء في التعليم أو القضاء أو سواه.. من مؤسسات الوطن؟ المضحك المبكي أن تلك الازدواجية انتقلت إلى بعض الشوريات اللواتي شاركن في النشاط الثقافي للجنادرية فهن ضمن نفس المفهوم المزدوج يقبلن أن يجلسن تحت قبة الشورى كجزء من البرستيج الاجتماعي، ولكن في محاضرات الجنادرية يرفضن الانخراط في الواجهة الرئيسة حيث يعجز وعيهن أن يخبرهن أن الثقافة هي وعي والتزام بقضايا النساء وقضايا الوطن عموما بشكل شجاع ومنسجم مع متطلبات أدوارهن.. وليس ورقة عمل مرتبكة تقدم وينتهي الأمر.