يمر الإنسان العربي في الوقت المعاصر بحالة من التيه، في ظل الصراع الأيدولوجي وغير العقلاني في المجتمعات العربية، التي من أسبابها حالة التردد في الانتقال من مظلة الحكم الدوغمائي والقبضة الحديدية إلى بيئة الحرية والتعددية والديمقراطية، وهو ما يجعل المجتمع العربي يعيش وضعاً من الوصاية والكبت والاستبداد، أي في حالة أقرب ما تكون إلى مشاعر القلق والخوف والتيه من المجهول، لذلك تراجعت بعض الشعوب العربية عن التقدم في مساحة الحرية، وأصبحت في حالة انتظار قد تمتد طويلاً. يشكّل عامل الوصاية على عقل الإنسان العربي عائقاً أمام التطور، فهو يعيش في حالة الانغلاق داخل ذاته، ولا يستطيع أن يتخذ قراراً دون مرجعية، والتي قد تكون دينية أو أي أيدولوجية أخرى، وذلك ما أسهم في زيادة شعبية الرموز التي تؤمن بسيادة القبضة الحديدية والتحكم في عقول الناس من بعد، والدهشة أن تلك الرموز لا تزال تحتل المنصة في قائمة الأكثر شعبية بين الناس. الانقياد الشعبي لتلك الرموز موروث قديم، وأثبتت الأحوال أن أجرأهم على الجزم والقطع يتسيد الموقف، ولعل أكبر ظاهرة مؤثرة في ذلك المرجعيات الدينية باختلاف الطوائف والمذاهب، التي أصبحت في هيئة استعداد كامل لتلقي الأسئلة الجديدة عن حكم استعمال كل وافد جديد، سواء كان ذلك القادم فكراً أو تقنية أو عملاً تطوعياً، وقد وصل الأمر إلى سؤال الشيخ عن حكم العيش في المريخ، الذي أجاب بتحريم العيش على كوكب المريخ، بزعم أن العيش على ذلك الكوكب لا يعد إسلامياً، وخرجت قبل ذلك آلاف الفتاوى التي تحاول قدر الإمكان بناء سياج حديدي حول عقل الإنسان. كان هذا الصراع بين الحرية والقيود هماً ثقافياً في صدر الإسلام، فقد اختلف العلماء الأوائل في إطلاق عقل الإنسان وفي إعطائه حريته، وكان الفقهاء يطالبون بتقييد العقل مبكراً بالتعاليم والفتاوى خوفاً من انحرافه، لكن آخرين يعتقدون أن هذه القيود كانت السبب خلف تقهقر حضارة المسلمين، وأن حرية الاختيار والإيمان بالإرادة الإنسانية يؤدي إلى تراكم العلوم التجريبية في نسق هارموني غير متناقض. يروي ابن طفيل في قصة حي بن يقظان قصة رمزية عن علاقة الإنسان بالطبيعة، وتحكي قصة طفل رضيع ألقت به المقادير في جزيرة غير مسكونة في سبع مراحل، كانت الأولى إرضاع الظبية لحي وحضانتها ورعايتها له حتى جيل سبع سنوات، ثم حدثت بعد ذلك وفاة الظبية وتشريحها من قبل حي لمعرفة سبب الوفاة، وهنا بدأت تتكون عند حي المعرفة عن طريق الحواس والتجربة، وكانت المرحلة الثالثة في اكتشاف النار، والرابعة في تصفحه لجميع الأجسام التي كانت موجودة حوله، واكتشف تشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور. أما المرحلة الخامسة فكانت في اكتشاف الفضاء، وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ مرحلته السادسة وهي الاستنتاج بعد التفكير، فتوصل إلى أن النفس منفصلة عن الجسد، وأخيرا، يصر حي بن يقظان، في المرحلة السابعة على أن سعادته تكون في ديمومة المشاهدة للخالق، ورغبته في البقاء في اكتشاف أسرار مخلوقاته. حي بن يقظان أسطورة عربية خالدة، في مضامينها فلسفة كانت الوضعية، التي فجرت الفطرة الإنسانية في الرغبة في امتلاك أسرار الطبيعة، كان للرواية العربية إسهام تنويري في ثقافة الإنسان، فالحرية لا تعني الضياع، وقد تكون طريق نضوج المجتمعات، وإلى تحوله إلى كائن حي ومستقل وقادر على استثمار مهاراته وعقله في الوصول إلى الحقيقة، ومن شهرة هذه الرواية أن خرجت قصص غربية مستوحاة من فلسفتها، مثل قصة روبنسون كروزو وطرزان وغيرها. خلاصة الموضوع أن الإنسان في العالم الحديث الذي يولد اليوم يملك عقلية أكثر استقلالاً وتطورا من قبل بسبب تراكم المعارف الإنسانية، واختلاف وتطور أنماط المعرفة، وتعدد مصادر الملاحظات، لكن الملاحظ أن الإنسان العربي استثناء وبعيد عن المشاركة في تحقيق ذاته؛ بسبب قيود فكر الوصاية والسيطرة المحكمة، وإذا أراد الخروج من حالة التيه فعليه أن يعيد الحياة لتجربة حي بن يقظان في حياته اليومية.