×
محافظة المنطقة الشرقية

صحيفة الشرق – العدد 1747 – نسخة الدمام

صورة الخبر

شاهدت أول مظاهرة شعبية في حياتي يوم الأول من مايو (أيار) 1973، وكانت المناسبة هي احتفال العراقيين بعيد العمال العالمي. كان الميدان غاصًا بالناس الذين يهتفون بشعار وحيد «عمال وفلح فدوه لأبو هيثم»، أي كلنا، عمالاً وفلاحين، فداء لأبي هيثم، وهي كنية اللواء أحمد حسن البكر، رئيس الجمهورية يومئذ. في الأسبوع التالي طلب منا معلم اللغة العربية الكتابة عن تلك المناسبة. ولسوء الحظ، كلفني المعلم مع خمسة زملاء آخرين بشرح مطالب العمال. فلم يستطع أحد منا استذكار أي مطلب غير الشعار السابق. فكتبنا جميعًا أن المطلب الوحيد للعمال هو التضحية بأرواحهم فداء للرئيس. تذكرت هذه القصة في منتصف عام 1992؛ كنت في مقهى على شاطئ طرابلس، أتبادل الحديث مع أستاذ في جامعة الفاتح. خلال إقامتي القصيرة في ليبيا، لاحظت نفورًا شديدًا من أي نقاش سياسي. وحين يتحدث أحدهم فلن تميز ما يقوله عما سبق أن قرأته في صحيفة ذلك اليوم أو ما سمعته في التلفزيون. من ذلك، مثلاً أني شكوت لمسؤول حكومي، ويسمى في ليبيا زمن القذافي «أمين اللجنة الشعبية»، انتشار الأوساخ في وسط العاصمة على نحو يوحي بأن البلدية لا تعمل. فرد عليّ بمحاضرة مختصرة حول اللجان الثورية ومؤتمر الشعب الأساسي في فكر القائد، أي العقيد القذافي. ذكرت القصة للصديق الجامعي فضحك، وقال لي ساخرًا إن جوابي يوجد في نظرية «الكلاب الضالة»، وهو الوصف الرسمي لمن يعارضون «فكر القائد». ثم أخرج محفظته وأراني صورة القائد، وعلق باسمًا: إنها «حرز من الموت». ذهبت هذه القصص وأمثالها في تجاويف الذاكرة سنوات، حتى قرأت كتابات حنا آرندت عن الحكم الشمولي، وكيف يؤدي إلى تجويف المجتمع ويفكك روابطه الداخلية، ويحول أعضاءه إلى ذرات هائمة تعيش ليومها، وتفقد كل اهتمام بالشأن العام أو المستقبل خارج إطار المنفعة الشخصية. لعلها مصادفة غريبة أن تستعمل آرندت مصطلح «المجتمع الجماهيري» في وصف الناتج الاجتماعي للأنظمة الشمولية. وهو ذات المسمى الذي اختاره العقيد القذافي لنظريته السياسية في 1977. يتميز المجتمع المدني بالتعددية والاختلاف وتنوع المصالح والاهتمامات وحرية التعبير عنها والنقاش فيها. أما المجتمع الجماهيري، تقول آرندت، فهو فارغ مفكك، أعضاؤه ذرات منعزلة، يفكر كل منهم بمفرده، وينظر للآخرين كذئاب تسعى لاستغلاله أو كفرصة للاستغلال. سطوة الاستبداد الشمولي تدمر ثقة الناس بعضهم ببعض، وتميت الأمل في الإصلاح، ويميل الكبار إلى تحذير أبنائهم من التعبير الصريح عن آرائهم أو السعي للتغيير، كما يبالغون في تصوير الخطر المحدق بمن يعارض سياسات الدولة. ينعكس هذا على الجيل الجديد فيكون مثاله البارز هو الفرد المتوحد والمهمش، المنكر لكل شيء والغاضب من كل شيء. الفرد الذي يبحث عن الاستقرار واليقين، لكنه لا يستطيع رؤية المسارات الطبيعية، لا يستطيع تحديد مصالحه ولا يستطيع تنظيمها، كما لا يستطيع الثقة بالآخرين كي يعمل معهم على مصلحة مشتركة. تتميز النظم الشمولية بقوة واستقرار بالغين، لكنها تزرع، ربما دون قصد، ميكروب التفكك وانعدام الثقة بالمجتمع الذي تحكمه. وحين ينكسر السقف، نجد أنفسنا فجأة في مجتمع يفتقر تمامًا إلى الإجماع على أي شيء، ويسعى أفراده لضمان مصالحهم ومستقبلهم الشخصي بقوة السلاح لا القانون، مجتمع سمته الرئيسية «حرب الجميع على الجميع»، كما قال توماس هوبز قبل أربعة قرون.