في الصباح الباكر وقبل شروق الشمس وعلى صوت العصافير فوق أغصان الصفصاف، بهمّة يستيقظ الفلاحون وهمُّ الأرض والمحصول يدفعهم إلى المزارع والحقول، حاملين على أكتافهم الفؤوس ومن خلفهم أبناؤهم يسحبون البهائم الرتع إلى أوتادها على حافة ترعة يقوم الأب بتطهيرها استعداداً لري الأرض. أما الأم فقد قامت إلى طيرها ودوابها فوق سطح البيت تطعمها وتسقيها والبنت ترتب البيت وتصلح من شأنه حتى يجتمعا معاً قبل الظهيرة في تحضير طعام الغداء لتحمله أختها على رأسها إلى أبيها الذي خرج ليستريح تحت ظل شجرة التوت فيشرب من قلّة الماء ويأكل بقطعة جبن قديمة رغيفاً صنعته له زوجه من دقيق بالأمس، قد زرع قمحه، والله يحب أن يأكل الإنسان من عمل يده ليعود في المساء مع غروب الشمس منهكاً متعباً فتريحه جلسة سمر مع الأهل والجيران مع كوب من الشاي الثقيل وفي الخلفية صوت أمسية دينية أو أغنية طربية آتية من الراديو الخشبي أو التلفزيون الأبيض والأسود بقناتيه الأولى والثانية وبعدها ينام الجميع مبكراً فغداً زرع جديد. إن كنت تعتقد أن هذه الصورة ما زالت إلى الآن تمثل حياة القرويين في مصر فسوف تتعرض للصدمة نفسها التي تعرض لها أحمد حلمي (مصري) عندما جاء من أميركا إلى مصر في فيلم "عسل أسود" فكما أن القاهرة لم تعد محروسة كما كانت، فكذلك القرية لم تعد ريفاً كما كانت فأهلها يستيقظون قبل الظهيرة منهكين متعبين لا من السعي والعمل بل من السهر أمام فضائيات الأفلام والدراما المتنوعة.. عربي وهندي وتركي، ومن يستيقظ منهم مبكراً فمن أجل أن يدرك القطار ليذهب إلى عمله البعيد لا عن بيته فقط وإنما عن حقله أيضاً فقد قرر أن يترك الزراعة بعدما تقدم إلى خطبة بنت الجيران الجميلة فرفضته لأنه فلاح وكأنها صارت وصمة عار وسبة هرب منها إلى شركة أمن ليعمل حارساً أمام إحدى القرى السياحية في مارينا، وما إن يرى فناناً مغموراً أو لاعباً مشهوراً إلا ويسارع بأخذ سيلفي معه ليتفاخر بها على أقرانه، وهو الذي كان يتفاخر بالأمس بقطنه طويل التيلة. أما أخوه الأكبر فقد اختار لنفسه طريقاً قريباً من بيته يمكنه من العودة إليه كل يومين، وذلك لأنه تطوع عسكري درجة أولى في وزارة الداخلية مع ابن عمه، ولمَ لا يتطوع ومرتباتهم كل يوم في الزيادة؟! أما النقصان فكان من نصيب الأرض، فلم يعد الأب يقوى على زراعتها، وهي لم تعد تجود بالخيرات كما كانت وكيف يقوى عليها وقد تركه أبناؤه وهو الشيخ الكبير؟! وكيف تجود بالخيرات وقد سممت تربتها المبيدات وثمارها الهرمونات؟! لذا فقد قرر أن يبيعها إلى أحد الأغنياء في القرية ليبني عليها مزرعة للدواجن. أزمة البطالة لم يكن لها وجود من قبل فالزراعة كانت تستوعب الجميع، لكن هذا الشاب الذي تخرج من الجامعة يستنكف أن يحمل الفأس عن والده أو يسحب البهائم ويركب الحمار، وفي الوقت نفسه لا يملك المال ليطور من مهاراته وقدراته فيكون أهلاً لسوق العمل فيجلس في البيت نهاراً أو على المقهى التي بنيت على ضفاف الترعة ليلاً.. أزمة البطالة لم يكن لها وجود من قبل فالزراعة كانت تستوعب الجميع، لكن هذا الشاب الذي تخرج من الجامعة يستنكف أن يحمل الفأس عن والده أو يسحب البهائم ويركب الحمار، وفي الوقت نفسه لا يملك المال ليطور من مهاراته وقدراته فيكون أهلاً لسوق العمل فيجلس في البيت نهاراً أو على المقهى التي بنيت على ضفاف الترعة ليلاً.. حتى الأخلاق قد تغيرت وتبدلت ولم يعد القروي صاحب فطرة سليمة ونفس متواضعة قانعة راضية. ترى هل انتهت القرية وحياتها البسيطة الهادئة الجميلة أم أننا سنرى يوماً عودة الطيور المهاجرة؟ ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.