«بيان الاستقلال» الذي كتبه ونشره توماس جيفرسون عام 1776 وأصبح أساسا للدستور الأميركي ينص في الجملة الثانية منه على أن «كل إنسان له حقوقه الثابتة (inaliable) في الحياة والحرية وتحقيق السعادة». كلمات بريئة وحكيمة ولا تقبل الجدال. لهذا ما فتئ الناس في كل مكان يستشهدون بها. غير أنها أفضت إلى أمور لم تكن في حسبان ذلك الرئيس الأميركي. هذه الكلمات الثلاث مجتمعة توحي بأي شيء، سليم أو شنيع. السعي للسعادة (hedonism) مدرسة فكرية قديمة في الواقع. كان السومريون أول من تبنوها وأشاروا إليها في ملحمة غلغامش. «كلوا ملء بطونكم. عليكم بالمتعة والنشوة ليلا ونهارا. ارقصوا واعزفوا الموسيقى، فهذه الأشياء فقط هي كل ما يهمكم!». وسار الإغريق الأبيقوريون هذا المسار وظلت فكرة المتعة والسعادة تتردد على ألسن المفكرين. بيد أن جيفرسون جعلها جزءا من الدستور. واستحوذت على فكر الأميركان كما نرى. كل شيء تستمتع به مقبول. ولكن قدر لهذه الفكرة أن تجتاح العالم وتبناها فلاسفة القرن الـ19 كجيرمي بثنام وجون ستيوارت مل وسواهما، وترددت طبعا في بطون الأدب كما نجد في أشعار بودلير ورواية المدام بومبادور. ولم يعد القوم يرضون بما قسم لهم ولأجدادهم فانطلقت الثورات في عموم القارة يطالبون بالمزيد والمزيد. يرى الناقد البريطاني فلادمير يانوساك أن هذا الميل الهدونستي الاستمتاعي في الفنون انعكس وتجسم في القرن الـ19 بمدرسة الروكوكو التي هامت بجمال المرأة فملأوا لوحاتهم بها وبالولائم الباذخة والماجنة، كما نجدها في لوحات الرسام الفرنسي بو شير وأنطوان واتو. وكان من نتائجها انتشار موضة اللون الوردي، لون البشرة الأوروبية، فراحوا يدهنون غرفهم بهذا اللون ويؤثثون بيوتهم ويلبسون ثيابهم بهذا اللون. وكانت الروكوكو بداية الخلاعية التي وصلت في الأخير إلى الدرجة التي عليها الآن. وراح سيغموند فرويد في العشرينات يبشر بمدرسة التحليل النفسي التي أخذت ترجع كل شيء إلى النوازع الحسية وتعتبر الغريزة أساسا لسلوك البشر وتحذر الناس من قمعها. ساهمت الفرويدية بقدر غير قليل في هذا التفسخ الجنسي الذي شاع في العالم الغربي حيث راح الناس يعتبرون أي شيء يستمتع به الإنسان شيئا مقبولا. وعلى طريقة رواد الروكوكو، راح القوم يزجون بصور الحسناوات في الإعلان عن أي بضاعة من الأدوية والعقاقير إلى السيارات والبولدوزرات. وهذا ما يقودني في الأخير إلى دور الصناعة والتجارة، الركن الأساسي للرأسمالية في تشجيع شعار «تحقيق السعادة» الذي جعله جيفرسون جزءا من الدستور الأميركي. كلوا واشربوا والبسوا واستمتعوا، وبالتالي اشتروا واشتروا، تبرجوا وتزينوا، وأنفقوا أنفقوا، اقترضوا واقترضوا، ولا يهمكم شيء غير أن تستمتعوا وتستمتعوا. ومين أبو بكرة؟!