هذا المقال بقلم عمرو حمزاوي، وهو ضمن مقالات ينشرها موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية، كما أنه لا يعبر بالضرورة عن رأي شبكة CNN . فقد رافقتني زوجتي وابنتنا ناديا لكي نهنئ على الزواج صديقا مصريا له في قلبي مكانة خاصة، بعد أن امتدت "عشرتنا" منذ سنوات الدراسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة) إلى زيارات متبادلة دائمة إلى حيث يسكن أو إلى حيث أحيى. الصديق، الذي كان يتحايل على الزواج وعلى ضغوط أسرته "لربطه" بإصرار شديد، تزوج أخيرا من سيدة سورية رائعة وفرت بيروت لها وﻷسرتها مرفأ آمنا من جنون الحرب والعنف في وطنها (خاصة في مدينتها حلب)، كما وفرت بيروت ولبنان ملاذات آمنة للكثير من الأسر السورية الفارة من المقتلة السورية. العروس والعريس تزوجا يوم السبت الماضي في كنيسة بيروتية، واحتفل بهما بعض الأهل والأصدقاء، ورغبنا في عدم التأخر عن تهنئتهما بعد ما عجزنا عن حضور مراسم الزواج. وحين التقيناها مساء الثلاثاء، حكت العروس عن أهوال الحرب والعنف في حلب وعن فرار الأطفال والنساء والعجائز، عن البيوت المهدمة والمدارس والمستشفيات المدمرة - وفقا لتقارير مستقلة، دمر بالفعل أكثر من 70 بالمائة من مباني ومرافق حلب ومعالمها الأثرية، عن خطوط التماس بين المتقاتلين التي تقطع أوصال المدينة وعن نقاط التفتيش التابعة لجيش الأسد وتلك التي تسيطر عليها جبهات كالنصرة وغيرها، عن الدموية والوحشية والاستبداد والإجرام والشرور الأخرى التي يشتركون جميعا فيها دون تمايزات، عن احتضان فقراء لبنان للأسر السورية الفارة من الجحيم وعن بيروقراطية أعمال الإغاثة التي تقوم بها وكالات الأمم المتحدة وبعض الوكالات الدولية الأخرى وعن امتهان الكرامة الإنسانية للاجئين السوريين - تشير بعض تقارير المنظمات غير الحكومية اللبنانية والعربية والدولية إلى أن نسبة كبيرة من الأموال المخصصة لإغاثة اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا تنفق على رواتب وسكن وترتيبات تأمين المسؤولين الغربيين العاملين في وكالات الأمم المتحدة، عن نجاحها هي في الحصول على عمل كمدرسة للغة الإنجليزية لبعض الأطفال السوريين المقيمين في بيروت وحولها وعن سعادتها بشيء من الاعتيادية في حياة انقلبت رأسا على عقب وضاعت منها ملامح الوطن. 2) صديقي سلام والدبلوماسي الإيراني: بدأت أعمال مؤتمر الأوضاع المجتمعية والسياسية في العالم العربي صباح اليوم التالي، الأربعاء، وكانت مداخلتي في جلسته الأولى التي جاءت بها أيضا مداخلة الصديق الباحث السوري سلام الكواكبي، نائب مدير مبادرة الإصلاح العربي - شبكة مستقلة لمفكرين ومثقفين وأكاديميين عرب يعملون على قضايا الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في بلادنا وينشرون كتاباتهم وأبحاثهم في دوريات علنية ومقرها الإداري في العاصمة الفرنسية باريس. ركز سلام، حفيد صاحب "طبائع الاستبداد" عبد الرحمن الكواكبي، في مداخلته على "المقتلة السورية" (وهو المفهوم الذي استخدمه هو في جلسة المؤتمر الأولى واستعرته أنا منه أعلاه) وشرح كيف دفعت متواليات الاستبداد والتطرف والإرهاب والتخلف المتكالبة على سوريا شعبها إلى مصيره الراهن، بعد اشتعال ثورة شعبية حقيقية طالبت بالديمقراطية والحرية والكرامة الإنسانية وأرادت إزاحة طاغية اعتاد زبانيته على سفك الدماء وارتكاب الانتهاكات، ولم يكن أبدا من بين أهدافها لا الزج بسوريا إلى عبثية مواجهة بين الطاغية وبين جبهات ظلامية متطرفة لا تقل إجراما أو عنفا، ولا فرض فظائع القتل على الأطفال والنساء والرجال في الداخل أو الموت وهم يبحثون عن ملاذات آمنة (غرقا في عرض البحر الأبيض المتوسط)، ولا مصائر الهروب والفرار واللجوء على ملايين السوريين. شرح سلام أسباب عجز المعارضة السلمية في سوريا عن تقديم بديل فعلي يوقف جنون الحرب بين الطاغية الأسد وبين الجبهات الظلامية، إن لمحدودية معرفة المعارضة بالمجتمع السوري وتجاهلها لفاعلية منظماته المدنية، أو للعنف الشديد الذي يمارسه الطاغية ومن يقفون في وجهه ويسفكون أيضا دماء الناس، أو لارتهان سوريا لإرادات إقليمية ودولية لا تريد منها إلا ساحة لصراع دائم. بعد انتهاء الجلسة، وأثناء تعبيرنا عن شيء من الإحباط لكون النقاش العام الذي أعقب مداخلتينا - مداخلتي كانت عن ثنائية الاستمرارية والتغيير في بلاد العرب وعن تفكيك وهم أن أوضاعنا المجتمعية والسياسية "لن تعود إلى الوراء" بتجدد الاستبداد والسلطوية وحكم الفرد - لم يتجاوز حدود المعارك اللفظية والحروب الكلامية والخانات الأيديولوجية المعتادة في المشرق العربي (اليمين، اليسار، الفكرة العروبية، فكرة المقاومة، الفكرة الطائفية، مع الخليج وأمواله، مع إيران وسلاحها)، أخبرني سلام أن ما أن انتهت الجلسة حتى جاء إليه دبلوماسي إيراني من سفارة الجمهورية الإسلامية في بيروت وسأله بصوت خفيض عن "هوية الجهة التي تموله" (من يدفع لك؟) واصطنعت ملامح وجهه ابتسامة هادئة إمعانا في الاستفزاز. لم يستفز سلام، وتجاهل الدبلوماسي الذي على الأرجح لم يرد إلا مواجهة انفعالية تنقلها بعض الصحف ووسائل الإعلام التابعة لإيران أو للطاغية السوري أو لحزب الله أو رغب في فرض الخوف على باحث سوري مستقل يصنفه زبانية الطاغية كمعارض غير مرغوب به ويدرك جيدا نفوذ إيران لدى الطاغية وفي لبنان عبر حزب الله، بل وتجاوز أيضا الكثير من الألم العام بسبب دعم إيران لبقاء الطاغية في الحكم ومواصلته لسفك الدماء وبعضا من الألم الشخصي لكون منزله في حلب قد اقتحم من قبل زبانية الطاغية وسمح بالإقامة به لضابط إيراني. تجاهل حفيد الكواكبي الفساد الأخلاقي والإنساني والسياسي لحديث دبلوماسي، يمثل دولة احترم تماسك مؤسساتها وأجهزتها وأدين بشدة قمعها للحقوق والحريات في الداخل الإيراني ودعمها للاستبداد وللطائفية وللمذهبيات القاتلة في سوريا والعراق ولبنان وأيضا في اليمن - وفي البلدان هذه جميعا، تتورط بعض الحكومات العربية في دعم معكوس الاتجاه لاستبداد آخر ولطائفيات ومذهبيات أخرى قاتلة. 3) مخفر الشرطة: استمرت أعمال المؤتمر البيروتي - الذي نظمه مركز كارنيجي لدراسات الشرق الأوسط - في جلسة ثانية عن مستقبل صنع السياسات العامة في العالم العربي وتداخل بها وزير سابق للمالية في لبنان ووزير سابق للخارجية في الأردن. ثم أعقب الجلسة الثانية استراحة للمشاركين وللحضور، والتي ما أن بدأت حتى وقدمت زوجتي ومعها ابنتنا لتخبرني بسرقة جواز سفرها وأوراقها الشخصية وأشياء أخرى في وسط مدينة بيروت وأن عليها الآن الذهاب إلى "مخفر الشرطة" للإبلاغ عن السرقة ثم الذهاب إلى السفارة المصرية في بيروت لاستخراج وثيقة سفر مؤقتة لكي نتمكن من العودة إلى القاهرة والتي كان محددا لها الخميس الماضي. اعتذرت من المنظمين عن عدم استطاعتي مواصلة المشاركة في أعمال المؤتمر، وذهبت مع بسمة وناديا إلى مخفر شرطة قريب. داخل المخفر، سارت الأمور بشكل هادئ وجيد، وبتعاطف واضح من عناصر "الأمن الداخلي" اللبناني مع مأساة فقدان جواز السفر وكافة الأوراق الشخصية خارج الوطن، وبرغبة حقيقية في مساعدتنا. سألنا عن احتمالات العثور على ما سرق، فقيل لنا أنها ضعيفة - على الرغم من أن السرقة حدثت داخل متجر وهوية السارق وعملية السرقة سجلتهما بوضوح كاميرات المراقبة. سألنا عن أسباب ضعف الاحتمالات، فصدمتنا تفسيرات "عنصرية" تحمل اللاجئين السوريين مسئولية "الجرائم المتزايدة" في بيروت ومناطق لبنانية أخرى، وتتهم جماعيا الأطفال والنساء السوريات بالتورط في شبكات سرقة واحتيال ونصب على الرغم من احتضان الشعب اللبناني لهم وﻷسرهم - تذكرنا فورا المقولات العنصرية التي تطفو بين الحين والآخر على سطح النقاش العام في مصر بشأن اللاجئين العرب فلسطينيين وسودانيين وعراقيين وسوريين وبشأن اللاجئين من الأفارقة، تذكرنا فورا مقولات العقاب الجماعي التي تروج في مصر أحيانا بحق الشعب الفلسطيني في غزة الذي يختزل في أتباع حماس ثم تختزل حماس تابع لجماعة الإخوان المسلمين ثم الإخوان في حركة إرهابية ثم تحمل ارتجاعيا مسؤولية الإرهاب في سيناء للإخوان ولحماس ولكل أهل غزة وتبرر "المقتلة الإسرائيلية" بحقهم. أثناء تجاذب أطراف الحديث مع عناصر "الأمن الداخلي" في مخفر الشرطة، هزت جدران المكان صرخة مدوية لا تصدر إلا عن إنسان يعذب. سجل شرطي من المحيطين بنا تعبيرات الصدمة على وجه بسمة ووجهي، فقال "لا شيء، مجرد تحقيق مع أحد المشتبه بهم!" تذكرنا فورا المتواتر عن جرائم التعذيب في مصر والحوادث الأخيرة التي تصاعدت إزاءها المطالبة بالتحقيق فيها وبمساءلة ومحاسبة المسئولين عنها، تذكرنا فورا كوننا في هم التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان وفي هموم الاستبداد الأخرى عرب - وفي المتن أيضا وليس على الهامش ولأمانة وموضوعية الطرح، أسجل امتناني للمعاملة الرائعة التي وجدناها في مديرية الأمن العام اللبناني التي تعين علينا الذهاب إليها للحصول على "سمة مغادرة" لبسمة، وفي سفارة مصر ببيروت من قبل الدبلوماسيين والفريق الإداري المعاون وأفراد أمن السفارة أصحاب الابتسامات الجميلة، وكذلك في مطار القاهرة من قبل ضباط الجوازات المختصين والذين أشهد على حسن إدارتهم لمواقف إنسانية صعبة كفقدان الأوراق الشخصية وحوادث أخرى معنا ومع غيرنا.