×
محافظة المنطقة الشرقية

وكالة الرئاسة‬ في المسجد النبوي تجدد سجاد الروضة الشريفة

صورة الخبر

هورست مالر أحد الأسماء البارزة في انتفاضة 1968 في ألمانيا، وكان حينها محامي الطلبة الثوريين، كما كان عضواً في الجيش الأحمر الألماني وسُجن لسنوات. لاحقاً، أصبح مالر أحد الأسماء اللامعة في التيار القومي الألماني المتطرف (النازيون الجدد)، وسجن مرة أخرى، لكن كنازيّ هذه المرة. مالر ليس وحيداً ولا استثناء في تاريخ اليسار الألماني. لم يرَ في مواقفه اللاحقة قطيعة مع تاريخه، على العكس فإنه يدافع عن فكرة الاستمرار، الاستمرار لفكرة أساسية وإنْ اختلفت تعبيراتها خلال هذه السنوات، وهي الدفاع عن الشعب في مواجهة الإمبريالية والرأسمالية الأميركية. تجربة مالر مهمة للنظر في السؤال التالي: هل اليسار تقليد أم تقاليد متباينة قد تتداخل في ظرف تاريخي محدد؟ لنضع المسألة على الشكل التالي: أهم ما يحتج به اليسار على الرأسمالية هو نزعتها الفردانية البورجوازية، ويستدعي في المقابل فكرة «الجماعة» باعتبارها حيزاً لا يمكن اختزاله للأفراد وخياراتهم القائمة على مصالحهم الخاصة واتفاقاتهم المؤسسة عليها. الجماعة ليست مجرد امتداد للسوق حيث يلتقي الأفراد ويتعاقدون في ما بينهم، فالإنسان ليس محض فرد. شكّل الاتكاءُ على فكرة «الجماعة» غير القابلة للاختزال إلى الأفراد وتعاقدهم أرضيةً مشتركة لليسار وأقصى اليمين في عدائهم لليبرالية والفردانية البورجوازية، فعلى سبيل المثل يتقاطع نقد كارل شميت (المحافظ الثوري) الديموقراطية البرلمانية في شكل لافت مع نقد جورج لوكاتش (الماركسي الثوري). كلٌّ منهما يلح على رفض الطبيعة الفردانية للديموقراطية البرلمانية وتصوّرها السياسة كسوق خاضعة للأهواء المتبدلة للأفراد، بحيث أنها تقصي بعداً أساسياً للاجتماع يتجاوز الأفراد، وهذا البعد قد يكون الطبقة أو الشعب. ما يجمع لوكاتش وشميت هو العداء للفردانية، لكن حدود التوافق تتوقف هنا ولا تتعداها، فهما يصدران عن تصوّرين متباينين تماماً للجماعة. عرفت ألمانيا في عهد جمهورية فايمار 1918 - 1933، محاولة بناء تحالف بين أقصى اليمين واليسار ضد الأساس الديموقراطي البرلماني للجمهورية آنذاك، على أرضية العداء المشترك لليبرالية. دخلت هذه الاستراتيجية تاريخ الفكر والسياسة في ألمانيا باسم الجبهة المستعرضة (Querfront). مما يشبه هذه الاستراتيجية في السياق العربي التحالف القومي - اليساري قديماً، والتحالف القومي/ اليساري - الإسلامي حديثاً. القبول بفكرة الجماعة التي لا يمكن اختزالها إلى سوق لا يجيب عن سؤال: كيف لنا أن نفهم هذه «الجماعة»؟ تقليدان حضرا دوماً في تاريخ اليسار للإجابة عن هذا السؤال. يفهم الأول الجماعة من داخل إطار التقليد العقلاني والتنويري، فهي مشكلة من أفراد عقلانيين وتخضع في سياساتها لمنطق عقلاني يتمثله أعضاؤها. غاية الجماعة هي توفير كل الإمكانات لأعضائها (الأفراد) لتحقيق ذواتهم بكل أبعادها عبر تحريرهم من القسر الاقتصادي والجهل والتقاليد الموروثة. لعبت صورة البورجوازي العقلاني دور النموذج، والهدف هو تعميم هذا النموذج على الجميع عبر تحريرهم مادياً، فما كان شرطاً لطبقة سيصبح متاحاً للجميع. التقليد الثاني هو التقليد الرومانسي للجماعة العضوية، الطبيعية والأصيلة التي فقدت روحها وعقلها وأصالتها تحت وطأة الفردانية والحداثة والتغريب. تشكل الشعبوية التعبير السياسي الأمثل عن هذا التقليد، وهذه الشعبوية قد تكون يسارية أو حتى يمينية قومية أو أصولية. كان العداء للفردانية الإطار المشترك للمحافظين واليسار عموماً في مواجهة الليبرالية، غير أن التقليد الرومانسي/الشعبوي داخل اليسار هو الذي سيؤسس للتداخل مع أقصى اليمين. سيصبح هذا التداخل في سياق النضال السياسي اليومي شديد الالتباس. التباس يدركه المرء في جدالات المؤرخين حول التشابه بين روسيا السوفياتية وألمانيا النازية أو حول طبيعة حركة 1968. يزيد الالتباس مع الانتقال إلى العالم الثالث حيث تأسس اليسار في خضم معارك التحرر الوطني ضد الاستعمار، حيث تتوحد مفاهيم الأمة والشعب والكادحين، فيما يتماثل الاستعمار مع الرأسمالي والبورجوازي والأجنبي. الطبقة والبورجوازي سيحضران بقدر ما يمكن أن يخدما كصور للشعب والاستعمار الأجنبي. من اللافت في أدبيات اليسار العربي، هيمنة مفاهيم من نوع «الطبقات الشعبية» و»الكادحون»، وهي لا تحيل إلى موقع محدد من عملية الإنتاج في تحديدها الطبقة بل إلى الشعب والكدح، تصورات تجد مكانها في التقليد الشعبوي ولكن ليس الماركسي حتى وإن انتسبت إليه. الجماعة ضد الفردانية، الشعب ضد الإمبريالية، حق تقرير المصير والخيار الذاتي للشعوب في مواجهة الأمركة والتغريب. كل هذه الشعارات يمكن أن تُفسّر بطريقتين متباينتين تماماً، يمكن أن يتفوه بها ماركسي أو يساري شعبوي كما يميني قومي، وفي خضم النزاع السياسي الأساسي الذي يُخاض ضد الاستعمار ومن أجل التحرر الوطني لم يكن مهماً كيف نفسره. كان كل شيء يسارياً بالفطرة، ألم يقل البعثيون يوماً أن سورية يسارية بالفطرة! لكن علينا أن نسأل، ما الذي علينا فهمه تحت هذه «اليسارية»؟ لا يقوم اليسار على نواة مركزية من قيم متفق عليها وعلى ما تعنيه، حيث يعلل الاختلاف بين اليساريين بالاختلاف حول السياسة الأمثل لتطبيق هذه القيم. على العكس، ففي داخل «اليسار» وجدت تقاليد متباينة تحيل إلى قيم متنافرة، تعايشت سوية طالما أن النزاع السياسي كان ضد «الرأسمالية». مع تحول السياق التاريخي بسقوط دول الاشتراكية الواقعية وزوال الاستعمار وانزواء لغة الصراع الطبقي وصعود العولمة وضعف الدولة القومية، لم يعد «اليسار» يقدم ذلك الإطار العام الذي يضبط التقاليد المتباينة داخله، بل صار النزاع السياسي يقسم اليسار على نفسه ويفصل بين هذه التقاليد المتباينة. العديد من الحركات اليسارية صار يكيل المديح للدولة القومية، بل باتت، في أحيان كثيرة، لا يمكن تمييزها عن الحركات القومية. انقسم اليساريون على جانبي النزاعات السياسية، يصوتون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وضده في الآن ذاته، هم مع اللاجئين وضدهم. كما عادت حركات تستعيد الربط بين الاشتراكية والقومية، للظهور مجدداً كما في البلشفية القومية الروسية. هذا كله ليس إلا تعبيرات عن تقليد شعبوي كان دوماً له مكانه في إرث اليسار، في مواجهة تقليد آخر هو التقليد التنويري والعقلاني لليسار. حال اليسار العربي أسوأ، وهو في غالبيته ليس سوى تنويعات على التقليد الشعبوي، في حين كان حضور التقليد الآخر أضعف، وإن حظي بأسماء معتبرة كياسين الحافظ والياس مرقص، اللذين دافعا عن أولوية العقلانية وحرية «الأفراد». في تراث اليسار العربي، وضمناً القومي العربي، هيمنت مفردات الأمة والشعب والإمبريالية والاستعمار في شكل طاغ مقابل ضمور لافت للحرية والديموقراطية والعقلانية والفرد، بل حتى عندما حضرت الحرية في شعار البعث فقد عنت حرية الأمة وليس الفرد. لهذا لم يجد اليسار العربي صعوبة في أن يصفق لصدام حسين أو القذافي أو الأسدين على رغم ما اقترفوه من مجازر بحق «الشعب» طالما أنهم يحاربون الاستعمار ويصونون السيادة. تعايش هذان التقليدان سوية بوعي أو من دونه، أما اليوم وقد أصبح النزاع بين المجتمع المفتوح وأعدائه، بين دعاة التنوع والعقلنة وحقوق الإنسان بوصفها قيماً عامة ومركزية، ودعاة الخصوصية الثقافية والقومية والجماعات العضوية، فلم يعد لهذا التعايش أن يستمر أكثر. هورست مالر كان محقاً تماماً في أن يرى صراعه استمراراً لماضيه، لكنه في المقابل ليس التفسير الوحيد لتقاليد 68...     * كاتب سوري