صدر حديثاً عن المجلس الأعلى المصري للثقافة كتاب «ما التاريخ وكيف نفسره؟» للدكتور أحمد زكريا الشلق الذي يرى فيه أن الإنسان لا يستطيع أن يتقدم في حياته أو يرتقي به إلا باستخدام ما وهبه الله إياه من عقل، فغرائز الإنسان الفطرية تجعله يحافظ على بقائه وعلى النوع الإنساني، لكنها لا تطور حياته، والعقل هو الذي يطور هذا البقاء ويجعله أحسن وأرقى، ذلك أن العقل يلاحظ ويتأمل ويختزن المعلومات، ويكشف العلاقات والروابط بين الأشياء، ويخترع ويبتدع، ومن هنا يحتل العقل مكانته في صنع الحضارات الإنسانية. والإنسان يقوم بالنشاط العقلي من خلال الدماغ، الذي نجح عبر الزمن في صقله وتدريبه، وأصبحت لديه قدرة على «عقل» الأشياء، أي القبض عليها والسيطرة عليها كما في لغتنا العربية. ومنذ تنبّه الإنسان إلى استخدام عقله وتدريبه وصقله، خطا خطواته الأولى في طريق الحضارة، ومن هنا يرى بعض العلماء أن العقل نفسه هو أول مخترعات الإنسان. يوضح الشلق أن قدرة الذهن على «عقل الأشياء» أي الإمساك بها، كانت محدودة في بداية التاريخ، ثم نمَت مع كثرة الاستعمال والمران. ومعروف أن التفكير، وهو الاستخدام المنظَّم للذهن، يمثل عملية حضارية احتاجت إلى زمن طويل حتى أصبح التفكير عنصراً أساسياً في توجيه الإنسان وأفعاله ونشاطه، بل في صنع حضارته. أما الإنسان فمن المسلّم به أنه الكائن الوحيد الذي صنع الحضارة، وهو لم يصنعها بعقله مضافاً إليه عنصر الزمن، بل بتركيبه العضوي وخصائصه البدنية كذلك. ومن المهم أن نشير إلى أنه لا تفاوت بين أجناس البشر، وإذا كانت ثمة اختلافات، فهي ظاهرية. فالإنسان مهما اختلفت أجناسه، يختص بخصائص جسمية وذهنية مكَّنته من اكتشاف فوائد كثيرة في كل ما حوله، كالنار والأحجار والمعادن، كما مكَّنته من ابتكار أشياء أعانته على تيسير حياته كالأسلحة والفخار. وهذه الأشياء ذاتها شحذت ذهنه وأطلقت عقله، فمضى يستزيد من الاكتشافات والمبتكرات زماناً بعد زمان، حتى تمكَّن – قبل نهاية العصر البرونزي الأول - من إقامة نظام حضاري ومادي ضَمَنَ له الأمن والرزق المنتظم، في ظل قبيلة متماسكة البنيان يتعاون أعضاؤها ويحكمهم نظام معين. كما تنبغي الإشارة إلى أن من أهم خصائص الإنسان الحضارية لسانه وأحباله الصوتية التي مكَّنته من إخراج الأصوات والحروف، والكلام الذي صارت له وظيفته في صناعة الفكر ونشأة علم المعرفة «الأبستمولوجيا» أي انطلاق الفكر بعملية وصف الكلام، أي صياغته في نسق مفهوم للتعبير عن شيء معين يدور في الذهن. يضيف المؤلف إلى العناصر السابقة عنصر البيئة الجغرافية كعامل يؤثر في الشكل الحضاري الذي يُنشئه شعب من الشعوب، على اعتبار أن الإنسان يستمد مادة حضارية مما حوله، ومن الظروف الطبيعية التي تحيط به، تلك الظروف التي لها أعظم الأثر في حفز همته إلى العمل والإنشاء والابتكار، أو في تثبيط همته وحرمانه من التطلع إلى الجديد. كما أن هناك من يعتقد أن ثمة جماعات بشرية مهيأة بطبيعتها للتقدم والرقي، نتيجة تميز غالبية أفرادها بخصائص بدنية أو خلقية، أو بهما معاً، يتوارثها أفرادها، وتميزهم عن غيرهم، تمكنهم من صنع الحضارة المتقدمة. وفي المقابل هناك أجناس غير قادرة على ذلك، أو أن قدرتها على صنع الحضارة محدودة. وبطبيعة الحال فإن أكثر من يعتقد ذلك هم الغربيون، الذين يؤمنون بتفاضل الأجناس، مركزين على لون البشرة، أي تفوق الجنس الأبيض ذي الرأس المستدير، أو الجنس الشمالي أو التيوتوني أو النوردي - أو ما يسميه نيتشه بالحيوان الأشقر. وأثــــبــــتت الدراســـات العلمية والإحصائية أن انفراد هذا الجنس بصنع الحضارة هو محض ادعاء لا أساس له، وأن تميز جنس على آخر هو تزييف للتاريخ. والمعروف أن القول بتفاضل الأجناس واختصاص بعضها بالذكاء والكفاءة والقدرة على بناء الحضارات سبَّب مآسي أغرقت البشرية في صراعات وحروب تاريخها معروف، والواقع أن كل الأجناس متحضرة، وما من شعب إلا وله مستواه الحضاري، وأن الفرق هو في مستوى الحضارة. حتى الجماعات البدائية لها حضارتها، ومن الخطأ القول إن هناك جماعات بشرية متحضرة وأخرى وحشية أو همجية، فليست هناك جماعات كاملة التحضر، وليست هناك جماعات إنسانية على الفطرة تماماً.