«إلينج»، هي الرواية الرابعة للكاتب النرويجي إنجفار أمبيورنسون، وتحولت إلى فيلم سينمائي رُشح إلى جائزة أوسكار. ليست مجرد قصة عن شخوص تعاني من التوحد، لكنها رحلة لالتماس الإنسانية العصية على الإنسان، إنسانية يمثلها تماماً إلينج المتوحد كما يمثل النقيض منها. تركيبة غريبة وواقعية جداً. ترجمتها أميمة صبحي، وصدرت أخيراً عن دار «العربي» في القاهرة. ربما شغلت تيمة مريض التوحد حيزاً كبيراً من شغف كتاب الرواية وصناع الأفلام في العقود الأخيرة، وهي بلا شك فكرة مثيرة لشهية الكتابة بما تفجره من أسئلة وخيالات جذابة، تقفز أحياناً إلى مقام السؤال الكوني الكلي وتسقط حيناً آخر نحو مقام السؤال العلمي. وتكمن قيمة الفنان لا في هذا أو ذاك بل بينهما، أي في استكشاف جمال الإنسان الساقط رغماً عنه ما بين الكلي والجزئي، بين الهلام الذي نسميه الروح أو العالم وبين المادة. الإنسان كما نعرفه كائن اجتماعي، فرد لكنه لا يستطيع العيش بمفرده. لكن إلينج فرد فقط، ربما يستثير هذا الأمر عالم النفس لاكتشاف ما الذي يجعل إنساناً يشذ عن القاعدة، ويستثير الفنان لاكتشاف لوحة ما عن هذا الفرد. يعاني من الرهاب الاجتماعي ويخشى الناس ويتوتر لأقل موقف يتضمن دخول بشر آخرين إلى حيزه الشخصي ويفترض أسوأ الأحداث التي يمكن وقوعها في كل مرة. هذه هي السمات الرئيسة لإلينج، لكن إنجفار أمبيورنسون، الروائي المتمرس لا يصنع بهذا عالماً خاصاً بإلينج، بل عالماً يتعافى فيه ويصنع صحبةً وحياة جديدةً مع مجموعة من الأشخاص الوحيدين. أي أنه يخطط لرحلة انتصار لبطله لا رحلة واصفة لتقوقعه داخل عالمه الخاص. ومن خلال هذا السفر تتفجر أمامنا أسئلة الفرد والجماعة، ومعضلة الخاص والعام. نختبر طفولتنا مع إلينج، الطفل الذي يبلغ من العمر ما يزيد عن ثلاثة عقود، ونختبر رجولتنا أيضاً في لحظات انتصاره، هذا البلوغ الذي يتحقق حين يصطدم عالمنا الحميم مع عوالم الجماعة. إلينج الذي يعيش الآن بصحبة صديقه «جيل بيارن» المتوحد أيضاً، كلاهما قادم للتو من مركز لإعادة تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة، حصلا على شقة سكنية ومنحة شهرية من الحكومة النرويجية. والبداية التي يطالعنا بها الكاتب ليست عن إلينج الوحيد تماماً، لكن عن إلينج وجيل بيارن اللذين نجحا في التوحد كلاهما مع الآخر خلال فترة إقامتهما في مركز التأهيل. ما زالا يعانيان من الرهاب الاجتماعي، ومرَّت عليهما شهور عدة لم يحاولا خلالها النزول إلى الشارع. كان هبوط درجات السلم والسير بين المارة ورؤية الزحام البشري كمهمة لعبور الجحيم. كانت رؤية الأجساد البشرية التي تمنحنا الشعور بالحميمية والدفء والأمان شيئاً بشعاً ومخيفاً بالنسبة إلى كليهما. وكان الشيء البشع الآخر هو رؤية «فرانك»، الموظف المنتدب لمركز إعادة التأهيل والمكلف بمتابعتهما من حين إلى آخر ورفع تقارير عن حالتهما لمركز التأهيل. كان «فرانك» بالنسبة إليهما فظاً، وكان النافذة الوحيدة لهما على العالم الخارجي، لذلك كانت البشاعة التي يشعران بها تجاهه مضاعفةً. يقول إنجفار أمبيورنسون واصفاً حالة إلينج وهو يقوم بمهمة مستحيلة لعبور الشارع: «جاء أشخاص ورحلوا. لكن أحداً لم يلحظني، ربما كان هذا ما ساعدني، حقيقة أن الناس عرفوا أني كنت هنا لكنهم لم يروني، كنت كطيف في الساحة، شخصية مجهولة لا يعرف أحد أي شيء عنها، وشعرت أن هذا المشهد أعطاني بعض الحرية، ورسَّخ شجاعةً مفعمةً بالنشاط داخلي. على كل حال قمت في النهاية وبعد مرور ربع ساعة بالضغط على أسناني وعبور الإسفلت المتجمد مندفعاً، وفتحتُ الباب». عما قليل سيتعثر إلينج وصديقه جيل بيارن بامرأة ضخمة حبلى في أواخر حملها مترنحةً على درجات السلم من أثر تناول جرعة كبيرة من الكحول، شخص وحيد آخر وعلى درجة متدنية من الذكاء وقدر كبير من المشاعر المشتعلة. وعما قريب أيضاً سيتعرف إلينج إلى الشاعر العجوز «ألفونس»، هذا الشخص الساحر الذي يستطيع أن يتحكم في عالمه الصغير ويساعد شيخوخته العاجزة وجسده المتهدل بطرقعة من إصبعه، يرسمه لنا إنجفار أمبيورنسون كقديس حكيم قادم من العصور يجرح الريح بعصاه وربما يهيأ إلينا أنه يستطيع امتطاء عكازه وركوب الهواء في أية لحظة. الأربعة سيكونون فريقاً. فريق الوحيدين هذا سيمخر عباب العالم والزحام البشري ويصنع لنفسه مكاناً في وقت قريب. إنها أشبه برحلة للتطهر الروحي يخوضها أبطال الرواية ويحكي لنا عنهم الكاتب على لسان إلينج، رحلة للصعود، لكن هذه المرة لن يكون الصعود للنرفانا بل إلى جحيم العالم. رحلة للاندماج الاجتماعي لمجموعة من الأفراد الفرديين تماماً والمنفصلين عن أي حس للجماعة ويجربون الحياة للمرة الأولى. كم هي جميلة هذه الحياة التي يكتشفونها وكم هي صعبة. مع فضح داخلي مستمر لنفسية إلينج المتوحد الشاعر الفيلسوف - يمكن لنا الآن أن نطلق عليه كل هذه التسميات - يقدم لنا إنجفار أمبيورنسون شخصيته الفريدة هذه بكامل صراعاتها النفسية وأزماتها ونبلها وأنانيتها. إنه الإنسان الأول الذي نزل من على جذع شجرة لاختبار العالم للمرة الأولى، كم كان هذا العالم قاسياً عليه، وكم كان هو أقوى من قسوة العالم، كيف غيَّرت الدنيا المتسعة منه ورسمته من جديد، وكيف غيَّرها هو كطفل مشاغب لا يدرك ما يفعله تماماً، لكن حسه الصافي يقوده لاجتياز الجحيم والخروج منه بارداً سالماً. إنها من نوعية الروايات التي يمكن أن نحسبها على تيار الوعي، هذا التيار في الكتابة الروائية الذي يتحدث عن العوالم والأحداث والصراعات الداخلية للشخصيات أكثر مما يتحدث عن الأحداث التي تنتجها الشخوص، ويتحدث عن العمليات والصراعات النفسية التي تدور على هامش الذهن لأبطال الحكاية أكثر من التجلي الواقعي لهذه الصراعات نفسها. وفي الوقت نفسه، ينجح إنجفار أمبيورنسون في رسم رواية مشوقة وحافلة بالإثارة أيضاً. فحكايته هذه لم تصبح بعد كتابتها خالصة مخلصة لتيار الوعي، إنما خلطة جميلة من العالمين الداخلي والخارجي للشخوص.