•• لا أدري لماذا أشعر بالابتهاج عند ممارستي هذا العناء الذي أسمه «الكتابة». •• وبعيدا عن لحظات الانسجام بيني وبين هذا الورق وما يملأ رأسي من هواجس وأوهام أنطلق في ثرثرتي المستديمة التي استمرت لأكثر من أربعين عاما كأي مهرج يقف على عتبة السلطان بزهو لا يماثله زهو وبروح من العظمة لا تطاق!! •• وسلطاننا نحن من نمارس هذا الهذر في الصحف هو القارئ.. وفي كل مرة أقف أمامه أختار أوضاعا وأوقاتا خاصة بي لا يعرفها أحد ولا يقف جنونها عند حد.. وبلون الفرح الفكاهي الذي ينتابني في حالات كهذه أسقط سقطات شنيعة تسبب لي الكثير من الأذى وتحرجني أمام ناشر متخصص لا يلبث حتى يقتطع جزءا من أطرافي وهذا الأمر يهون وبدلا من أن أشعر بالضيق والتوتر يعاودني ذلك الشعور المتنامي بالعظمة بأني أقول ـ أشياء ذات أهمية ـ . •• والحق أنني لست عاتبا ولا محتجا ولا غاضبا من أحد.. •• لقد أدركت مؤخرا وبعد فوات الأوان أنني لم أقل شيئا وأن مبخرتي التي في يدي لم تحرق أحدا بقدر ما أحرقتني وأني من أولئك الناس الذين أجهدوا في رسم ساعات موتهم ولكن عزرائيل لم يأت بعد!! •• وقبل الموت بقليل سمعت أصواتا نسائية بالغة الوضوح تقول ما لم أستطع أن أقوله على مدى خمسة وأربعين عاما.. وهكذا شعرت أن للأرض صوتا لا يمنعه أحد.. وأمام ذلك الكلام البكر والرائع والجميل الذي يخط للأجيال أساطير لا تنتهي وتعجز ثرثرتي أن تجاريه وبحجم الفرح الذي امتلأت به.. شعرت أيضا بالحنق لتوهمي بأنني أتوكأ على حروف لا تسقط حتى جاء من يسقطها؟! •• لقد كنت «مكلوما» طوال الوقت حتى جاءت مجموعة من البنات ينطقن الحجر.. ويخرجن كل ضب أعمى من جحره في رمال الصحراء.. •• لقد أطلت كل الكائنات والزواحف برؤوسها لتشهد ذلك الموكب الحر الذي يشق طريقه بين الصخور وجبال «العسر» التي لم تعد عسيرة.. حتى على أصوات من خلف حجاب.. •• لقد قالت البنات ما لم نقله كرجال.. وحطمن بالكلمات ما عجزنا عن تحطيمه بسواعدنا.. وخرجن من مخاض صمتهن برؤية ثابتة وعلاج ناجع لكل عللنا.. •• إنهن قادمات وعلى ألسنتهن تراتيل صلاة لا تنتهي إلا بانتهاء كل أوجاعنا ومثالبنا وأخطائنا.. •• كان حضورهن أبلغ من كل حججنا ومنابرنا ومحاولات إحباطنا لهن وإنكارنا لنصفنا الحي.. •• إنهن لسن في حاجة إلى عون أحد.. كل هذه الخيام السوداء التي تمشي على الأرض.. لها السنة ممتدة إلى عنان السماء.. وعندما تطلق هذه الغيوم الداكنة المطر.. لن تبقي ولن تذر وحينها ستطهرنا من كل بلادتنا وخمولنا وعجزنا.. وستؤول كل محاولة لسد طريقهن إلى الفشل.. •• لقد رأينا في حوارهن مع متاريس الظلام كيف انتصرن.. بالعقل والحجة والمنطق لا بالصراخ والتكفير والتنديد.. •• إنهن لا يصرخن.. ولا يندبن.. ولا يلطمن الخدود.. ولكنهن يرتدين الأسود حزنا على ما آل إليه حالنا كعرب.. يقبعن في آخر الصفوف بين حضارة العالم ورقيه. •• المرأة في بلادنا التي وقفت تذود عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد «نسيبة بنت كعب المازنية» التي عاشت وجراحها الغائرة في عنقها كشهادة كفاح للمرأة المسلمة.. ستبقى هي نفسها المرأة المسلمة.. التي تذود عن حقها في العيش في مجتمعها والإسهام في نهضته ورقيه ورفعته وإن كره الكارهون.. فذلك حقها في بناء حضارة بلادها.. لنقف جنبا إلى جنب في طليعة الأمم.. رجالا ونساء.. من أجل عزة وكرامة أرضنا التي شرفها الله بأن تكون أطهر بقعة وأقدسها على وجه الأرض ولا أزيد.