ظاهرتان استشرتا في المجتمع المحلي خلال السنوات الأخيرة، وأصبحتا مصدر قلق لمن يريد أن تكون القيم الاجتماعية ذات عمق ثقافي، وفيها من الصدق والالتزام بالجوهر، ما يجعلها مدار اهتمام الأجيال المتعاقبة، ومجال اقتداء لهم فيما يرونه لدى آبائهم وأمهاتهم ومعلميهم وقادة الرأي في مجتمعهم، فيما تصدّق الأفعال فيه الأقوال. وهاتان الظاهرتان ترتبطان أيضاً بعضهما ببعض في النشأة والظروف الاجتماعية والتعليمية التي مرت بها البلاد في العقود الأربعة الماضية، كما تتصلان بتطورات المفاهيم بشأن السلوك المحبذ في البيئات المحافظة؛ مما جعل البيئة الحاضنة لمثل هذه السلوكيات تتسم بالنفاق والتلون الفضفاض. وهي سمات لم تكن تعرفها مجتمعات شبه الجزيرة العربية في تاريخها الطويل، ما يؤدي إلى التساؤل: هل نحن إزاء طفرة أنثروبولوجية، تطبع ثقافة هذه البيئة بسمة لم تكن من خصائصها الجوهرية على الإطلاق، أم هي كبوة ارتبطت بأدلجة عظيمة خضع لها المجتمع في عقود متوالية على كافة المستويات؟ أي حكيم سيعطينا الإجابة عن هذا التساؤل، أو أي ثاقب نظر سيتنبأ بما تؤول إليه الأمور في هذه البيئة، التي بقيت معزولة نسبياً عن العالم عدة قرون، ثم أصبحت تتنافس مع البيئات الحضرية ذات الخصائص النهرية أو البحرية في كثير من سمات الحواضر الشرقية ثقافياً وسلوكياً، بل حتى في المظاهر الفيسيولوجية، التي كانت تميز تلك المناطق عن إنسان شبه الجزيرة في لون بشرته، وتقاطيع وجهه، وصرامته وصراحته الشديدة في كل الظروف. لا أظن حكيماً أو متنبئاً سيثلج صدورنا بإجابات قاطعة، فلعلنا نستعرض بعض أشكال ذلك التحول، قبل أن ننظر في تحليل تحولاته ومآلات التعامل معه. أحد ضروب هذا التحول المستهجن في هذه البيئة، ذات السمات المذكورة أعلاه، هو أن تجد أشخاصاً كانوا أسوياء، وطبيعيين في حكمهم على الأمور، أو تحسبهم كذلك، فيفاجئونك بمواقف شخصية أو عامة غريبة الأطوار، ولا تتسق مع آرائهم السابقة، التي عهدها الناس منهم. ومنهم من كانوا كتاب رأي، أو شخصيات عامة، أو حتى أناس عاديين ممن تراهم في الطريق، وتختلط معهم في العمل أو الشارع. وقد تناول الناس مؤخراً هذه الظاهرة لدى عدد من الناس في بيئاتنا الخليجية، وأطلق عليها بعضهم مصطلح «الاستشراف»، بمعنى التوق إلى قائمة شرف وهمية، ليعدهم الناس كذلك، وربما ليحصلوا على مكاسب أو يحققوا مصالح ذاتية يسعون إليها. أما الضرب الآخر في هذه المسالك، فهو الحالات المتداخلة من النفاق المعلن بالقول دون العمل، التي شاعت في وصفها عبارة: «أحب الصالحين، ولست منهم»؛ إذ يتبارى بعض الناس بكيل الإطراء لمن يظن أن المجتمع يبجل سلوكه من رموز اجتماعية، أو حتى أفعال قد لا تتوافق مع القيم المعاصرة، ولا مع تنظيمات السلطات الرسمية. فيريد أولئك المدّعون إيهام الناس، بأنهم مع أصحاب الصلاح - من وجهة نظرهم - حتى وإن لم يستطيعوا السير على منهجهم. ولكيلا يبقى تحليلنا نظرياً، نورد بعض ما يفيض بكثرة على ألسنة أولئك المدّعين، ومنه مثلاً الاعتراض على تعيين النساء في مجلس الشورى، ونشر شعارات يريدون منها التحريض على استمرارهن في المجلس، مثل: «نساء الشورى لا يمثلنني»؛ ومؤخراً عندما اشتركت بعض النساء السعوديات في أولمبياد ريو، ظهر منهم شعار آخر مماثل: «نساء ريو لا يمثلننا». وهم في أغلبهم حالات من الازدواج وقلة النضج وسوء الأدب، وستتكرر شعاراتهم الفارغة مع كل تحديث، أو مواءمة للمجتمع مع العصر، فهل ستقضي على تجاوزاتهم قرارات حازمة، قبل أن نرى أصوات الطغمة النشاز تستشري في مجالات أخرى؟