تكاد النكتة وهي السلاح الوحيد المتبقي لدى جزائريين لمواجهة واقعهم، أن تخلع من الشارع عنوةً بحكم التغيّرات الطارئة، على رغم ملئها فضاءات أخرى مشكلة مرآة عاكسة لتحولات المجتمع وتوجهاته. تستذكر أجيال بداية استقلال الجزائر عن فرنسا عام 1962 تكريس مختبرات السلطة نكات ما يسمى بـ «جحا الجزائري» و «جحا الفرنسي» في الشارع، كي تتداول سريعاً مختزلةً صور المواطن الجزائري القوي والذكي في مقابل صورة الفرنسي الساذج، ما عبّر عن تلك الحقبة الزمنية وما تلاها من إرهاصات حقبة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد (1979 - 1992)، وتحوّله إلى بطل رئيس للنكتة الجزائرية خلال هذه الفترة، حتى دفعت بنجله في حقبة الثمانينات، الذي كان مولعاً بجمع النكات التي تطلق على والده، إلى سؤال رفاقه كل صباح «هل من جديد على الوالد؟». أكثر جرأةً ووعياً ذلك الوجود الطاغي للنكتة الخاصة بالرئيس بن جديد جعلها تختفي بمجرّد استقالته ودخول البلاد دوامة العنف الدموي، وحلت محلها نكتة تنقل صفة السذاجة إلى مدينة معسكر (غرب)، لتنافس سابقتها من حيث التأثير والانتشار، عقيدة القتل العشوائي التي طاولت أرواح الجزائريين خلال «العشرية السوداء». والبارز في الأمر أنّ الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، شكر الروح المتسامحة والمرحة لسكان معسكر في أحد خطاباته، علماً أن المدينة تتصدّر المراتب الأولى في مستويات التدريس والإنتاج الزراعي، كما أنها عاصمة الأمير عبدالقادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة والمقاومة ضد الاحتلال الفرنسي عام 1832. ومع مطلع القرن الحالي، بدأت حقبة الرئيس بوتفليقة بعد استعادة البلاد أمنها، فتناولت النكتة الغرور الذي أظهره لما وصل إلى سدة الحكم و «استيلاءه» على مساحة كبيرة من البث التلفزيوني. لكن خلال السنوات الأخيرة، خف وهج النكتة في الشارع كضرورةٍ حتمية لنهج العولمة الذي اندمج فيه الجزائريون، وربما بسبـــب عوامل اجتماعية - تاريخية متشابكة أو بتأثير مناخ المنطقة، وفـق ما أكّده المؤرخ الفيلسوف عبدالرحمن بن خلدون قبل قرون في كتابه الشهير «المقدّمة» وهو يتناول شعوب شمال أفريقيا عموماً التي تعرف بأنها أقل الشعوب صناعةً للضحك. وعلى رغم ذلك، تتميّز النكتة في الجزائر بما يفرّقها عن نكات شعوب أخرى، فهي مركّبة شيئاً ما، وتفتقر إلى المجازفة، خوفاً من أن يتحوّل صانعها إلى محور سخرية المتلقي، ما ساهم في قلة إنتاجها. ويعتبر الناشط المستقل المدوّن الياس نجيمي معدّ صفحات التسلية في صحيفة «الشروق»، النكتة الحالية أكثر جرأة وعمقاً ووعياً من ذي قبل. ويؤكّد نجيمي أن وسائل التواصل الإجتماعي خلعت تاج النكتة الجزائرية من الشارع، بل قضت على الأدب الشعبي وأفقدته بريقه ونكهته، إذ أدّت هذه المواقع إلى عزل الشباب والمراهقين عن واقعهم الأسري وعن مشاركتهم في الفاعليات الحياتية والجلسات العائلية الحميمة. ويقصد نجيمي بالأدب الشعبي القصة الشعبية مثل «لونجة بنت الغول» و»البوقالات» والألغاز والنكات وغيرها. وعموماً، يفضّل شباب اليوم تقاسم ضحكاتهم عبر رسوم كاريكاتورية وفيديوات تشاركية، تترك الأثر البالغ في المخيلة المجتمعية مثل كاريكاتير صور الرئيس بوتفليقة وهو يحمل لافتة كتب عليها «الشعب إرحل». وبهذه الطريقة الساخرة عبّر كثر عن رأيهم في أحداث الربيع العربي واستحالة استنساخه في الجزائر خلال عام 2013. ضحية العولمة ويوضح نجيمي في تصريحٍ لـ «الحياة» أن غياب النكتة كان ضرورةً حتميةً للعولمة وانتشار مواقع التواصل والفضائيات المختصة في الفكاهة والكوميديا والبرامج الساخرة والحوارية «توك شو» التي حلت محل النكتة، مذكّراً بأن «النكتة الجزائرية في معظمها سياسية ساخرة ازدهرت في أواخر ثمانينات القرن الـ20 مع الانفتاح الديموقراطي. وفقدت بريقها وسط الشارع مع العولمة وانتشار وسائل التواصل الإجتماعي». وترى أستاذة علم الاجتماع نورية دراس أن النكتة «تأخذ في كل حقبة زمنية معينة، نمطاً من طبيعة عيش المجتمع، وطموحات أفراده، وتستمد مواضيعها المتعددة من ظروف الحياة وأشكالها ومضامينها مما هو مكبوت، لا سيما عند شعوب تعاني من انعدام الحرية أو تمتع أفرادها بحرية نسبية». في المقابل، يرفض نجيمي الحديث عن تراجع النكتة السياسية، معتبراً أنها غابت عن الشارع فقط. لكنها هي الطاغية في مواقع التواصل، بل يجدها أشد تهكماً واستهزاءً مما كانت عليه خلال عهد الرئيس بن جديد، وله في نكات رئيس الحكومة سلال الذي اقترن اسمه بالفقاقير، ونكات عن الرئيس بوتفليقة أفضل مثالاً، وهناك صفحات مختصة في تلك النكات. ويشير نجيمي إلى أن «الانفتاح الديموقراطي الذي عرفناه أواخر ثمانينات القرن الـ20 وما جلبه من مآسٍ، ثم فترة الإرهاب، وبعدها الفساد السياسي والإجتماعي، مراحل وحقبات ساهمت في نضج المواطن الجزائري سياسياً على الأقل، مقارنة بنظيره في بلدان عربية أخرى»، مؤكّداً أن لأجهزة استخباراتية دوراً في الترويج للنكات في الثمانينات وبداية التسعينات. فقد هدفت إلى إظهار الرئيس بن جديد شخصيةً غبيةً، بينما هو سياسي محنك. ووفق هذا المنحى، تتحول النكتة إلى «بارومتر» الشعبية، كما نقل يوماً عن أن أكثر ما يزعج الرئيس الفرنسي السابق الجنرال شارل ديغول، هو أن النكتة السيــاسية أو الرسوم الكاريكاتورية لم تعد تعره اهتماماً في أواخر حكـــمه، فخلص إلى أن شعبيتي تدنّت في فرنسا، فأنا لا أرى نفسي في الرسوم الكاريكاتورية ولا أسمع اسمي في النكتة التي تنتقدني». وبقدر ما تحتمل النكتة من قراءات ساخرة، فإنها قد تثير حساسياتٍ وأزماتٍ ديبلوماسية، عندما يتعلّق الأمر بتشويه صورة مجتمع. ويتذكر الرأي العام الجزائري والفرنسي انعكاسات نكتة أطلقها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، خلال حديثه عن الوضع في الجزائر، ما أثار خلافاً ديبلوماسياً أواخر عام 2013. يومها صرّح هولاند بأن وزير الداخلـــية الفرنسي آنذاك مانويل فالس (يشغل الآن منصب رئيس الوزراء) «عــاد من رحلةٍ إلى الجزائر سالماً، ما يُعد إنجازاً بحد ذاته». وهو ما اعتبرته الجزائر مزحة تشوّه النظرة إلى الوضع الأمني في البلاد.