لا يُقاس عِلم العالم أو الباحث أو الداعية بكم ما قرأه من كتب أو حفظه من متون ونصوص، أو عدد منجزاته العلمية من كتب ودراسات وأبحاث وخطب ومقالات، بل بمواقفه الجادة الحازمة من قضايا دينه وأمته، وانحيازه الدائم للمبدأ والحق المجرد عن الهوى والمنفعة بغض النظر عن الأشخاص أو الحكام. لا أتحدث هنا عن غزارة علم الشيخ محمد حسان أو مشايخ السلفية ياسر برهامي وجمال المراكبي وعبدالله شاكر وغيرهم، حيث حفظ النصوص والمتون من قرآن وسنة وفقه وسيرة وغيرها من العلوم الشرعية، فقد يكونون حافظين للعلم، بارعين في الدعوة، يملكون ناصية الكلمة وحسن البيان بكلماتٍ تأخذ بالألباب وتخلع القلوب وتدغدغ مشاعر العامّة، لكن جُلّ ما يعنيني هو موقفهم من فساد الحاكم وجوره، ومساحة خروجهم من دائرة العيش في كنف السلطة، وكأنهم يشرعنون لفساد الحاكم، ويلعبون دور المحلل لظلمه بسكوتهم تارة، ويسوقون المبررات الواهية للحاكم، والتي لا تنطلي إلا على المغفلين والبسطاء تارة أخرى، يتظاهرون بالوقوف إلى جانب الحق والعدل، وأنهم على الحياد، بينما تجدهم أقرب إلى الظلم والباطل، حين تفضحهم كلماتهم بعد الصمت المريب، فأي حيادٍ يكون بين الحق والباطل؟! إذا كان الشيخ محمد حسان ونظراؤه من شيوخ السلطان، يبررون الصمت بأنه اتقاء للفتنة، ثم إن تكلموا وجدتهم يدسون السم في العسل؛ حيث يصير الجاني هو المجني عليه والعكس، فأسوق له ولرفاق دربه ممن يعتنقون الإسلام على الطريقة الفندقية، هذه القصة لشيخ من شوامخ علماء الأزهر الشريف إبان حكم خديو مصر "محمد توفيق"، رغم أنه يدرك مغبة وقوفه مع ثورة أحمد عرابي الشعبية ضد فساد توفيق وحلفائه بريطانيا وفرنسا، علّهم يتعلمون من شيوخ العزة كيف يكون الثبات في الضراء قبل السراء. بعد هزيمة جيش أحمد عرابي أمام قوات الإنجليز بتواطؤ وخيانة "توفيق" ورجاله في موقعة التل الكبير 1882، ودخول البلاد في مرحلة الاحتلال الأجنبي الفعلي، قام "توفيق" بإيعاز من الاحتلال بطبيعة الحال، بتقديم علماء ومشايخ الأزهر الذين دعموا ثورة عرابي، للمحاكمة بعد أن وصفوا "توفيق" بالخائن والمارق عن الدين، لأنه مالأَ الأجانب أعداء البلاد وأصبح غير صالح لحكمها وتبوؤ عرشها، كما قالت فتوى الشيخ "أبو العلا الخلفاوي" 1881، الممهورة بخاتم الأزهر الثائر، فكان من هؤلاء الشوامخ "شمس الدين محمد الإنبابي ومحمد عليش وأبو العلا الخلفاوي وحسن العدوي وغيرهم"، فجاء دور الشيخ "حسن العدوي" في المحاكمة، كما يقول العلاّمة الراحل الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه "صحائف التاريخ". "وقد خيم الإرهاب في كل زاوية، وأخذ الطغيان بكل خناق، وتعاهد الخونة على أن يذلوا كبرياء هؤلاء الأُباة، متوهمين أن الشجاعة ستذوب في ساحة البطش فتنكس رؤوساً كانت مرفوعة، وتخفض أصواتاً طالما جلجلت بالزئير، وينظر القاضي متشامخاً إلى الشيخ الوقور، وقد وقف أمامه في ثبات وإقدام يصيح به: أأنت وقّعت على المنشور؟، فيقول الشيخ العدوي: أي منشور تريد؟ فيرد القاضي: المنشور الذي يقضي بعزل الخديو عن أمر البلاد، فيرتفع صوت الشيخ الجريء: لو جئتم بمنشور جديد يقضي بعزله لوقعته فوراً دون تأجيل، لقد خان توفيق وطنه وإسلامه. وترتج المحكمة ارتجاج الباطل أمام زلزال الحق، ويصيح القاضي متسائلاً في حيرة: أسمعتم ما يقول؟!، فيزأر الشيخ ثانية: الخديو خائن خائن!، وينظر القوم بعضهم إلى بعض -وأكثرهم مصريون للأسف- فيجدون قطرات الخجل تملأ وجوههم الشاحبة، وتمتمات الحيرة تعقد ألسنتهم، فما يجدون ما ينطقون، وقد وقف المحامي الإنجليزي (برودلي) موقف الإعجاب من الشيخ العدوي، ثم رنا بعينيه إلى أصنام المحكمة الجالسين مجالس القضاة كالساخر المستهزئ، وكأنه يقول لهم: هل تجرؤون أن تكونوا مثله هل تجرؤون؟!".. انتهت المحاكمة الهزلية، ولكن لم تنتهِ محاكمة التاريخ بعد لمن يزورونه باسم الإسلام من شيوخٍ كنا نعدهم يوماً من العلماء العاملين!، الذين أوهمونا أن الخنوع أمام الحاكم حتى لو كان ظالماً من صميم شعائر الدين، من باب سد الذرائع ودرءاً للفتن، بينما كلمة الحق عند سلطان جائر فتنة وتهلكة ينهى عنها صحيح الدين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.