باريس: أنيسة مخالدي لا يبدو أن لطموحات «غوغل» حدودا، فبعد أن أحكم عملاق الشبكة قبضته على تقنيات الاتصال الحديثة ودخل مجال الروبوتيك وتقنيات الطب، ها هو اليوم يواصل زحفه ليقتحم بقوة مجال الثقافة والفنون. مشاريع كثيرة يحضر لها محرك البحث، بالتعاون مع مؤسسات ثقافية وفنية مختلفة، بدأت تثير مخاوف الحكومات الغربية التي تخشى ضياع تراثها الثقافي والفكري بعد احتكاره من طرف «غوغل»، لا سيما أن آثار الهجمة قد بدت جليا على أرض الواقع من خلال استحواذه على المحتويات الرقمية لعدة مكتبات عالمية، بصدد التحضير لأكبر متحف افتراضي في العالم «آرت بروجيكت» والمعهد الثقافي «كولتور لاب» الواجهة الجديدة لتلميع صورة «غوغل» في عاصمة الثقافة والفنون باريس. * فرنسا تتصدى لـ«غوغل» فرنسا تحاول مند مدة، وبصفة خاصة، قطع الطريق أمام أطماع الإخطبوط الأميركي، الذي انطلق مند السنوات الأخيرة في ورشة ترقيم هائلة لكل كنوز التراث الثقافي العالمي. ما يخشاه الفرنسيون هو أن يهجر الزوار متاحفهم ومعالمهم التاريخية، لأنهم اكتفوا بالزيارات الافتراضية التي يقترحها عليهم «آرت بروجيكت» التابع لـ«غوغل»، وأن يصبح محرك البحث الأميركي، على المدى البعيد، المحتكر الوحيد لكل الكنوز الثقافية التي قام بترقيمها وحده. القضية تشبه لحد ما ما فعله «مايكروسوفت» مند عشر سنوات حين احتكر سوق برامج الحاسوب ودخل في مواجهة قضائية شرسة مع كبرى الشركات. ورغم أن أهم المؤسسات الثقافية الفرنسية قد رفضت تسليم مفاتيح كنوزها لـ«غوغل»، كمتحف اللوفر وجورج بومبيدو، فإن بعضها قد بدأ مفاوضات جدية بخصوص إسناد جزء من محتوياتها لـ«غوغل» لكي يهتم بترقيمها، على اعتبار أن وزارة الثقافة الفرنسية لا تملك الميزانية الكافية لتولي هذه المهمة التي تكلف الكثير. هذه القضية شغلت أكبر المسؤولين كالرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي أعلن أنه لن يسمح بأن يذهب تراث فرنسا أدراج الرياح. وكان وزير الثقافة السابق فريدريك ميتران قد كان خصص عام 2010 ميزانية ضخمة بلغت 750 مليون يورو لترقيم محتويات المؤسسات الثقافية الكبيرة كالمكتبات والمتاحف ومراكز أرشيف السينما والأفلام، لسد أي طريق قد يمكن «غوغل» من الاستحواذ على محتويات التراث الفرنسي، معلنا على صفحات الجرائد: «علينا توخي الحذر من (غوغل)، فالقضية كآبار النفط إذا امتلكت الأنابيب حصلت عليه من القاعدة». أما وزيرة الثقافة الحالية أوريلي فليبيتي، فقد رفضت ببساطة حضور حفلة تدشين مشروع معهد «غوغل» الثقافي، لأنها عدت مسائل كثيرة ما زالت قيد البحث مع «غوغل»، وهي لا تريد أن يفسر حضورها على أنه بطاقة بيضاء لـ«غوغل» في فرنسا. الناشرون الفرنسيون حاولوا بدورهم الوقوف في وجه عملاق الشبكة، عبر حرب قضائية دامت ست سنوات خاضتها أهم دور النشر الفرنسية كـ«ألبان ميشال»، و«فلامريون»، و«غاليمار» ضد «غوغل» لإلزامه احترام حقوق النشر والملكية الفردية بعد أن اتهمته بترقيم نحو 12 مليون كتاب دون إذن مسبق من الناشرين وذوي الحقوق. قضية «غوغل بوكس» انتهت بسحب الناشرين دعواهم مقابل تعويضات مادية وصلت لـ300 مليون يورو وضمانات جديدة قدمها محرك البحث الأميركي. «أرت بروجيكت» أكبر متحف افتراضي في العالم «غوغل» بدأ بضربة قوية عام 2010 حين أنشأ مشروع «آرت بروجيكت»، وهو أكبر متحف افتراضي في العالم، وقد بدأ بالتعاون مع 17 مؤسسة متحفية إلى أن وصل بسرعة مذهلة لأكثر من 300 مؤسسة، وقد نجح في ترقيم أكثر من 53 ألف قطعة فنية وأثرية من أكبر متاحف العالم كمتحف «تيت بريتن»، و«الموما» و«المتروبوليتان» الأميركيين، ومتحف «رينا صوفيا» الإسباني، أو متحف «فان غوخ» بأمستردام. في فرنسا ستة متاحف أمضت معاهدات شراكة مع «غوغل»، منها متحف «أورسي»، وقصر «فرساي»، ومتحف «جاكمار أندري». «آرت بروجيكت» يمنح لمستعملي الشبكة إمكانية زيارة أكبر متاحف العالم بفضل تقنية «ستريت فيو» ونوعية رفيعة جدا للصور (سبعة ملايين بيكسل). مع إمكانية تنظيم البحث حسب معايير معينة، كاسم الفنان أو تصنيف وموضوع العمل الفني. في مقال بعنوان «كيف لـ(آرت بروجيكت) أن يحدث ثورة في مغامرة الزيارة الفعلية للمتحف»، يكتب المدون المتخصص جاسبر فيسبر: «وظيفة تكبير الصورة (التزويم) التي يمنحها (آرت بروجيكت) تجعلك تلاحظ أدق التفاصيل حتى الصغيرة جدا، ولا أبالغ إن قلت إنه لم يسبق لي أن شاهدت لوحة بوتشيلي (ميلاد فينوس) بمثل هذه الطريقة من قبل». المعلومات الأخيرة التي نشرها موقع «آرت بروجيكت» تكشف عن أن مستعملي الموقع يقضون نحو 60 ثانية في تفحص لوحة مقابل 20 ثانية في متحف حقيقي. «آرت بروجيكت» كشف أيضا عن أن أكثر أسماء الفنانين ورودا في محرك بحثه هم: «فان غوخ»، و«دالي»، و«كليمنت»، وأن أكثر اللوحات مشاهدة هي: «ليلة النجوم» لفان غوخ. الصحافة الفرنسية قابلت «آرت بروجيكت» بكثير من التوجس، في مقال بعنوان «(غوغل آرت بروجيكت) المتحف الافتراضي تجربة باردة»، كشف موقع (رو 89) الإخباري عن عيوب كثيرة يتضمنها الموقع والصعوبات التي يلقاها مستعملوه للحصول على المعلومات من خلال شهادات أشخاص جربوا الموقع لأسابيع. مقال الموقع الفرنسي خلص في الآخر إلى أنه لا شيء يمكن أن يغني عن الزيارة الفعلية للمتحف، لأن الفن هو قبل كل شيء تجربة فعلية تشارك فيها كل حواس الإنسان. وفي مقال آخر بموقع «ديلي دوت» الأميركي بعنوان «هل يجعلنا (غوغل) أقرب إلى الفن» (إز غوغل برينغ أز تو كلوز تو أرت)، يكتب الباحث المتخصص جيمس إلكنس ما يلي: «عندما تزور موقع (آرت بروجيكت) لمشاهدة بعض اللوحات الفنية ستفهم أن المسألة ليست تقنيات عصرية فقط، بل هي أعمق من ذلك. فأنت حين تنقر على لوحة كـ(عشية الأحد في جزيرة لاغراد جات) للرسام جورج سورات مثلا ستشاهد تفاصيل لم تلحظها في حياتك من قبل، كمنظر السيدتين المتمددتين في الظل، الذي لم تنتبه إليه قطعا وأنت تتفرج على اللوحة في متحف شيكاغو. وإن نقرت مرة أخرى على وجه السيدة بدا لك كأنه يحمل تسعة أو عشرة عيون كأنها عنكبوت غريب، فهل كان الفنان سورات يتوقع أن نرى هذه التفاصيل؟ وبالأحرى، ماذا كان يريد للجمهور أن يراه بالتحديد؟ إنها قضية مهمة، بل هي أقدم وأهم مبادئ نقد الفن: كيف يتوقع الفنان أن نتلقى عمله؟ الإنترنت قد يغير مفهومنا للفن، وقد يأتي علينا اليوم الذي نعد فيه متابعتنا المستمرة للشبكة نوعا من أنواع أمراض الثقافة». * لماذا باريس؟ مقاومة الفرنسيين هجمة «غوغل» على تراثهم الثقافي لم تهبط عزيمة محرك البحث الأميركي. ففي الأشهر الأخيرة، ظهر مجددا ليعيد الكرة بمشروع جديد أثار انتباه رجال السياسة والإعلام على أعلى المستويات. مختبر الثقافة أو المعهد الثقافي لـ«غوغل» فتح أبوابه أخيرا في باريس، بصفته واجهة جديدة لنشاطات العملاق الأميركي في المجال الثقافي. 340 مترا مربعا في الدائرة التاسعة حصل عليها «غوغل» مقابل 100 مليون يورو. المعهد، كما يقدمه أصحاب المشروع، ليس فضاء للعرض أو للزيارة، بل مكان عمل يشغله أكثر من عشرين مهندسا في خدمة المؤسسات الثقافية التي تبدي رغبة في ترقيم محتوياتها لعرضها على مستعملي الشبكة. يشرح أميت سود، مدير معهد «غوغل» الثقافي: «بعد مشروع (آرت بروجيكت)، الذي كانت كل نشاطاته عبر الشبكة، كان لا بد لينا من إيجاد فضاء فعلي، يكون واجهة لنشاطاتنا ومكانا تقصده المؤسسات التي تحتاج لخدماتنا». لماذا باريس تحديدا كمقر لهذا المعهد الجديد؟ يجيب إريك شميت المدير العام لـ«غوغل»: «نعد باريس بمؤسساتها الثقافية العريقة أهلا لأن تصبح (سيليكون فالي) الجديدة. المسؤولون الفرنسيون كانوا دائمي التخوف من مبادراتنا في هذا المجال، لكننا نقترح عليهم اليوم فتح صفحة جديدة كلها ثقة وتفاؤل». لغاية الآن، أكثر من 300 مؤسسة، معظمها متحفية، من 34 بلدا مختلفا، أمضت معاهدة شراكة مع معهد «غوغل» الثقافي، وهو ما أفضى إلى ترقيم أكثر من سبعة ملايين قطعة. خدمة المعهد تشمل أيضا المساعدة التقنية لكل المتاحف التي تريد أن تطور مواقعها على الشبكة، وكذا مساعدة الفنانين الشباب الذين يودون عرض أعمالهم على الشبكة والباحثين في مجال الفن. ماذا يستفيد «غوغل» من وراء هذا المشروع ؟ يرد أميت سووت، مدير المعهد الثقافي لـ«غوغل»، في حوار مع مجلة «جي دي دي» الفرنسية: «منذ بداية نشاطنا ونحن نصادف الكثير من الممانعة، وأنا أجيب ببساطة: ما يجعلنا نطلق هذا المشروع هو وجود طلب حقيقي، فنحن نملك الوسائل التكنولوجية الحديثة والمتاحف تحتاج لهذه الوسائل لمواكبة تطورات العصر. لو كان المشروع قد اقتصر على بضع عشرات من المتاحف لما استثمرنا في هذا المعهد، لكننا الآن نتحدث عن أكثر من 300 مؤسسة ثقافية شريكة، علما بأن أيدينا تبقى ممدودة لكل المؤسسات حتى تلك الموجودة في صغرى المدن. يبقى هناك أناس قلقون ومتوجسون، لكننا نأمل طمأنتهم مع مرور الوقت». وفي مقال بعنوان «ليس فاعل خير فقط.. لماذا يستثمر الوحش (غوغل) في الثقافة»، تحصي الصحافية أوريلي شامبانين من موقع (رو 89) الإخباري أربعة أسباب تدفع «غوغل» للاهتمام بالثقافة، وهي: أولا: استمالة فرنسا التي طالما تصدت لأطماع المحرك الأميركي في المجال الثقافي والاستفادة من تراثها الثقافي الكبير. «غوغل» وجد الحل في مشروع المعهد الثقافي الذي اختار باريس مقرا له. ثانيا: الترويج والدعاية لتقنياتها الحديثة، حيث إنه لا يطالب المؤسسات الثقافية التي يساعدها بأي مبالغ ولا يضع صفحات دعائية على مواقعه الثقافية ولا حتى يكشف عن الميزانية التي يخصصها للثقافة، لكن المعروف هو أن أرباحه ارتفعت في آخر ثلاثي لعام 2013 بنسبة 11 في المائة. ثالثا: تضيف الكاتبة: إيواء الذاكرة العالمية؛ فـ«غوغل» يولي اهتماما بالغا بسمعته ويسعى لتلميع صورته وجعلها أكثر إيجابية في المستقبل عبر مهمة ترقيم التراث الثقافي العالمي. ورابعا: جني الأرباح عاجلا أم آجلا، إذ إن غوغل لا يطلب حاليا شيئا مقابل خدماته، لكن استعمال هذه المواقع يبقى مشروطا بفتح عنوان إلكتروني على «جي ميل» وهو بحد ذاته استثمار على المدى البعيد.