من قال بان عمر الإنسان ليس سوى اللحظات الجميلة فقد صدق، أما مايتخللها من أيام وأشهر وسنين فقد لا يكون محسوباً إلا عند التشكي أو الندم! يعيش الإنسان حياته ما بين خوف وأمل، صدق وكذب، حب وكره وعبث وتنقضي أيامه فيها وهو غير مدرك لما أدركه منها وما أنجزه. وعندما يلتقي مع ذكرى طفولية أو صديق قديم يقع أسيراً للحنين لتلك اللحظات النادرة من عمره، ومهما حملت معها من أيام أو سنين فستظل مجرد لحظات. بالأمس القريب اتصلت بي صديقة طفولة تسألني على استحياء إن كان في صوتها شيء يمكن أن أميزه بعد أن مضى على آخر مرة سمعته فيه زمن، وذكرت اسمها وهي مترددة ولم تدر بأنها أسعدتني وفي لحظة أحيت في قلبي مشاعر كانت غائبة وجعلتني أستشعر حقيقة ما كنت أفقده. كلماتها الصادقة المحبة أعادتني لزمن جميل مضى ولا يمكن أن أستدركه. ففي صوتها تذوقت المعنى الصادق للوفاء وبكلامها وحديثها مسحت عن جبيني عناء يوم مزدحم بالمهام والالتزامات المرهقة. يمضي الإنسان في حياته مفادياً بأغلى ما عنده ليكسب ويغنى ويرتقي ويتعلم ويبني علاقات ثابتة وأخرى عابرة ومهما حاول أن يكون صادقاً فيها وملتزماً فسيجد من يظلمه أو لا يفهمه لأن الحياة بظروفها المختلفة لا يمكن أن تكون منصفة، وستظل تفرض على أصحابها أنماطاً مختلفة يرتقون فيها وينزلون تبعاً لمصالح الناس وحاجاتهم التي تضعهم أسرى للانطباع الأول أو للتجربة. جوهر الإنسان وحقيقته لا يخبرها إلا الأصدقاء ومهما كانت معاييره فستظل صداقة الطفولة أصدقها لأن الانجذاب فيها عادة ما يكون صادقاً على الفطرة دون أن تشوهه مطامع الحياة وأحوالها أو تصبغها بألوان مختلفة. ومهما كان الاختلاف فيها ظاهراً مع الزمن ستظل المحبة فيها صادقة لأنها لم تبن من قبل على مشاعر كاذبة وهذا ما يميزها. الصداقة الحقيقة هي التي تصمد مع الزمن ومهما كان فيها من البعد فجوهرها يظل محفوظاً في قلب صاحبه دون أن يتنازل عنه أو يفقده يتجدد العهد فيها مع كل ذكرى أو لحظة عابرة وهي رصيده الحقيقي ومكسبه. ومن يحظى بها يعد محظوظاً لأنها الوحيدة القادرة على تجديد نشاط صاحبها ولملمة جراحه ومصائبه. وخذوها نصيحة مني ومن وراء تجربة، اسالوا عن أصدقاء الطفولة وستجدون فيهم شيئاً مختلفاً لا يمكن لأحد أن يشبهه وعيشوا معهم ذكريات مليئة بالمشاعر الصادقة لا حسد فيها ولا شك أو عتب ومهما بدا الاختلاف بحكم الزمن واضحاً فسيظل الحب النابع منها قادراً على خلق معجزة.