ما زالت مسيرة الإصلاح في بعض بلاد المسلمين تمر بأزمات سياسية وثقافية خانقة، وتكاد محنة ابن رشد الحفيد أن تختزل عثراتها التاريخية، الذي استطاع بآرائه وعلمه أن يحدث التغيير في العالم الآخر، بينما فشل كما فشل غيره من المفكرين في دفع عجلة الإصلاح في طريقها الصحيح في بلاد المسلمين، وكان قد قدم في سيرته العلمية نموذج المفكر الذي يجب أن يسبق عصره، والذي حاول قدر الإمكان دفع الأمة نحو الغد. كان يدرك أنه يواجه تيار الفقهاء ورجال الدين والسياسة في عصره، لكن ذلك لم يغير من قناعاته التي آمن بها وعبّر عنها في سابقة إنسانية نادرة. بسبب تلك الآراء الجريئة وُجّهت إلى ابن رشد تهمة الخروج عن الدين ومخالفة عقائد المؤمنين، وحُـكم بإبعاده ونفيه، وصدر بسببه منشورٌ يُحرّم الاشتغال بالفلسفة، وتحريم قراءتها واقتناء كتبها، وأحضرت كتب ابن رشد، وأُحرقت على مرأى العامة في ساحة قرطبة، وتعالت ألسنة المرتزقة في شتم وهجاء ابن رشد، ولم يكن ذلك الحكم تعبيراً عن كفره وزندقته، لكنها كانت عاقبة لآرائه الجريئة، فقد قدم - رحمه الله - إرثاً علمياً لأمته، وكان لا يتورع عن تقديم وصفات متكاملة لإصلاح الأمة، ومن ثم انتقالها إلى المستقبل. أشعر بالدهشة والعجب عندما أقرأ آراء ابن رشد الإصلاحية التي قالها في القرن الثاني عشر ميلادي، وأتابع بعض آراء الفقهاء في القرن الواحد والعشرين. وكأن الزمن توقف عند رماد كتبه.. من آرائه التي تستحق التأني في قراءتها رأيه في النساء، فقد قال “إن النساء ما دُمن من أفراد الجنس البشري فهن يشتركن بالضرورة في تحقيق غاية الإنسان، وهي تعمير الأرض والارتقاء بالحياة البشرية، ولن تختلف النساء عن الرجال في تحقيق هذه الغاية، إلا من حيث الدرجة الأكثر أو الأقل مثلما تختلف بين الرجال، ويستطعن أن يصبحن من القضاة والفلاسفة والحكام أسوة بالرجال”. تضمن كتاب ابن رشد “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” فصلاً عن القضاء باعتباره منصباً سياسياً، يعرض فيه ما يجوز ولا يجوز حتى تصح الأحكام. وأهم ما جاء في هذا الفصل تطبيق القانون على الجميع بلا تمييز، وإلا تفرقت الأمة، وتحولت إلى مدن عدة، تُفتقد فيه الحرية التي تمثل غاية السياسة الاجتماعية، وكأنه في ذلك الفصل يتحدث عن ماضينا وحاضرنا وربما مستقبلنا، وهو ما تعثر تطبيقه في كثير من عوالم المسلمين، بينما أصبح هذا المفهوم القانوني إحدى سمات المجتمع المتحضر الحديث في الغرب. يصف ابن رشد الحاكم الطاغية بأنه الذي يقبض بيده الثقيلة على كل ما تحت السماء، وكأنه يصف بذلك الدكتاتور الذي ينفرد بالسلطة، ويسخر الناس والثروات لخدمات أهوائه، وتناول رحمه الله أنواع الحكومات وأصلحها في التاريخ، وتوصل إلى أن الحكومة المثلى هي الحكومة الجماعية التي تكون الرئاسة فيها بالاتفاق مع المدنيين، لا الحكومة الثيوقراطية المستبدة بالرأي والحكم. يصف ابن رشد حال الناس في كثير من الممالك الإسلامية في ذلك العصر، ويقسمهم إلى صنفين: “صنف يعرف بالعامة وآخر يعرف بالسادة”، ويضيف ابن رشد: “وفي هذه الحال يسلب سادتهم عامتهم، ويمعن السادة في الاستيلاء على أموال العامة إلى أن يؤدي بهم الأمر أحياناً إلى التسلط”، وكأنه أيضاً بذلك يتحدث عن أحوال المسلمين في الماضي والحاضر، ولم يتغير هذا المفهوم الاستبدادي، ولكن صاحبه تخريجات فقهية له، تجعل منه أمراً مباحاً، كما أدان سياسة الخسة والمبالغة في الخراج والإسراف في النفقة، عندما يعمل أصحابها على جمع الثروة حتى ولو كانوا في غير حاجة إليها، وينفقون على أنفسهم بإسراف. وقد كانت وصفته الشهيرة في إصلاح العقل عندما أكد ألا تعارض بين الدين والفلسفة، أي لا اختلاف بين الشريعة والعلم، وإذا كان هناك ثمة تعارض فالتعارض ظاهري بين ظاهر نص ديني وقضية عقلية، ونستطيع حله بالتأويل وفقاً لقواعد وأساليب اللغة العربية، وهو المنطق الذي كان بمنزلة الخلاص لقرون الظلام الدينية في الغرب، بينما رفضه فقهاء المسلمين وشيوخهم، وتجمدت أزمنتهم في مرحلة ما بين التخلف والتوقف عن ملاحقة الركب الإنساني. كانت وصفة الشيخ أبي الوليد في الإصلاح بأن يتعاقب على البلاد وفي أزمان طويلة حكام فضلاء، فلا يزالون يرعون هذه المدن ويؤثرون فيها قليلاً قليلاً إلى أن تبلغ في نهاية الأمر أن تصير على أفضل تدبير. جاء ذلك في تقديمه للمدينة الفاضلة، وكان يؤمن بأن المجتمعات من الممكن أن تصل إلى مستويات الفضيلة إذا تم تربية الأجيال على ذلك. رحمه الله، وفك الله أسر فكره النير من تزمت الفقهاء وتسلط رجال السياسة.