لم تكن لقطة «الميديا» تلك التي بكى فيها بائع الكتب على ما آلت إليه حالة الحياة في العراق وتداولتها الأوساط الثقافية، إلا امتدادًا حزينا لتاريخها مع نكباتها الثقافية، فمنذ أن تبدّل ماء الفرات بالحبر على يد المغول قبل ما يقارب ثمانية قرون تحديدًا في العام 1258م وبغداد مهمومة بمكتباتها وكتبها، كلما انحازت إليها عاندها التاريخ، وكلما استوت رفوفها زلزلتها الأحداث، وأعادت بعثرة الأيام في راحتيها. بغداد عاصمة العراق التي احتفلت بالقضاء على الأمية فيها قبل ما يقارب الأربعين عاماً في ملمح ثقافي نادر وملفت في الدول العربية التي ابتليت بالتجهيل قبل نهضتها في العصر الحديث.. بغداد نوارة الحضار العربية والإسلامية تباع كتبها على رصيف خائف من انفجار قنبلة، أو حقد عابر، أو خطيئة ضلال.. تباع بحسرة مصدّقة جعلت الدموع تسبق الحروف، والحضارة الإسلامية كلها ترتجف من ضياع أمسها، حينما لا يكون يومها قادرًا على أن يسلّمه لغدها. كان البائع يؤكد بكبرياء حضارتنا أنّ هذه الكتب هي آخر ما بقي لدى العراقي ليبيعه، فسابقته دموعه بالبوح عن أوجاعنا قبله، وحملته عزّته على أن يعتذر عن كل العراقيين الذين يكابدون الفقر فيلجؤون أخيراً إلى بيع ضوئهم على مدار التاريخ. بدأ البائع تلك اللقطة التاريخية يسوّق لبضاعته، ليقتات بها، كان يؤكد على حسن صحابة الكتاب، وحين فاجأه ظله بالضوء، لم يملك إلاّ البكاء، وكأنه أدرك حينها أنّه يبيع قلبه! لا نعرف عن بغداد إلاّ أنها وردة حضارتنا المخبوءة في صفحات كتاب عريق، حتى قال الأعراب يوماً «كانت مصر تكتب، ولبنان تطبع.. بينما العراق يقرأ»، ويقرأ، ويقرأ، ثم يحتفظ به في خارطته التاريخية، وحين قال شيخ بغداد الكبير وشاعرها الراحل عبدالرزّاق عبدالواحد: كبيرٌ على بغداد أنّي أعافُها وأني على أمني لديها أخافُها كبيرٌ عليها بعدما شابَ مفرقي وجفَّتْ عروقُ القلبِ حتى شغافُها إنما كانت ملامحه تاريخ، وقلبه كتاب، وذاكرته مكتبة، هي بغداد.. وذاك الشاعر الشيخ الذي غادرها حتى مات بعيدًا عنها، أو هذا البائع الذي أبكى التاريخ ببكائه، هي بغداد.. اليوم صورة حزينة لتاريخٍ مبتسم، حالة من حالات تشرّدنا حتى عن عراقة حضارتنا في زمن بات الإنسان فيه أقل من أن يعيش فضلاً عن أن يقرأ! ففي العام 2003م نهبت آثارها، واستخفّ الإنسان الجائع والمضطهد فيها بمكتسباتها التاريخية حينها، واليوم تتعاقب عليها النكبات، ويفتك الفقر بروحها فتتجلّى لنا هذه الحسرة الدامعة فضاعةً بما هي عليه دون أن تملك حياله شيئا، لتتناقلها الأوساط الثقافية بحزن دون لوم، وبألمٍ متكرّرٍ وخالد في ذاكرتنا الحضارية، وبحسرة لا تملك معها إلاّ أن تستعير عيون التاريخ لتبكي أكثر مما ينبغي. منظر شارع المتنبي بعد التفجير يحزن أهل الثقافة جنود أميركيون ينظرون إلى الحطام المحترق الذي انتهى إليه شارع الثقافة العراقية بكاء المثقف على بيع مكتبته أثار شجون المتابعين