كشفت مجلة فورين بوليسي في ثلاث حلقات متتالية، قصة الجهادي السوري المكنى بـ"أبو أحمد"، الذي تنقل بين عدة تنظيمات جهادية، لينتهي به المآل في صفوف داعش. وتناول التقرير الذي قدمه الصحفي الهولندي هارالد دورنبوس، المتخصص في الشرق الأوسط، والصحفية جنان موسى، تطورات صراع الجماعات المتشددة في سورية، وتحولاتها من خلال سرد قصة المواطن السوري البسيط "أبو أحمد"، الذي حولته الأزمة السورية من ثائر على نظام الأسد إلى قيادي في تنظيم داعش. ومما يدعم مصداقية التقرير، وفقا للمجلة، مقدرة أبو أحمد على تمييز صور متشددين أوروبيين عرضت عليه، حيث استطاع تحديد أسمائهم والدول التي قدموا منها. وتعيد تفاصيل الشهادة وما تحدث به أبو أحمد، إلى الأذهان حلقات المسلسل العالمي "صراع العروش"، بكل ما ترويه الشهادة من خيانات ونقض للعهود وتبديل للولاءات، تتشابه مع تفاصيل الرواية العالمية، وتفوقها إثارة وخيالا. البداية والتحول ولد أبو أحمد في شمال سورية، لعائلة محافظة من الطائفة السنية، وكان طالبا عندما بدأت الثورة في مارس عام 2011، حيث سارع بالانضمام إلى صفوف الثوار، ضد نظام بشار الأسد، ويروي أحداث ذلك التحول بقوله "مع وجود الإثارة في قلوبنا، عندما رأينا حدوث الانتفاضة في مصر، متبوعة بالثورة في ليبيا، تمنينا أن تمر على بلادنا رياح التغيير. وعندما تفاقمت الانتفاضة السورية حتى أصبحت حربا أهلية في منتصف عام 2012، قررت الانضمام إلى صفوف الثوار والمشاركة في القتال. وسارعت بالانضمام إلى جماعة من المقاتلين، كان معظم أعضائها من السوريين، وكذلك بعض المقاتلين الأجانب القادمين من أوروبا وآسيا الوسطى. وكانت هذه الجماعة غير مستقرة، حيث تقوم عقب بضعة أشهر بتغيير اسمها أو الاتحاد مع ثوار آخرين. ولكن بعد ذلك أصبحت هذه الجماعات أكثر استقرارا. وفي ربيع عام 2013 اخترت الانضمام إلى تنظيم داعش، بعد أن توسع في سورية، حيث تزايدت التوترات والضغوطات بين الجماعة المتشددة وجبهة النصرة. واخترت الانضمام للدواعش في يونيو عام 2014، على افتراض أن التنظيم يعكس طموحات عالمية. وحتى هذا اليوم ما زال أبو أحمد عضوا في تنظيم داعش، مطلعا على معلومات فريدة حول تصرفات التنظيم وتاريخه. تجاوز قانون الصمت يشرح التقرير الأسباب التي دفعت أبو أحمد للحديث واختراق قانون الصمت الذي يتطلبه الانضمام لداعش، ويقول "وافق أبو أحمد على التحدث معنا لعدة أسباب. بالرغم من أنه لا زال عضوا في داعش، إلا أنه لا يتفق مع كل ما يقوم به التنظيم. مشيرا إلى أن ما جذبه إليه هو دعايته بأنه أقوى جماعة سنية في المنطقة، حسب زعم التنظيم، رغم شعوره بخيبة الأمل لأن داعش "تجاوز الحدود بقسوته، بسبب ما فعله من تصرفات كتعذيب وإحراق وإغراق معارضيه ومن يخرق قوانينه"، حسب قوله. عامل آخر أسهم في تغير نظرة أبو أحمد للتنظيم، عندما بدأ يذكر سِمات هذه الجماعة المتشددة، قائلا إنها "لم توحد المقاتلين معا، فعلى العكس تماما ازدادت التوترات مع الجماعات الأخرى، وقد راوده القلق قائلا إن ولادة داعش كانت سببا وراء تفكك جبهة النصرة، وضعف القوات الأخرى في سورية". سقوط ورقة التوت قال أبو أحمد إنه كان يتمنى أن ينجح داعش في توحيد صفوف الجماعات التي أسماها بـ"الجهادية"، ويقدر على توحيد المقاتلين تحت راية واحدة. وأوضح مدى إعجابه بالمقاتلين الأجانب الذين كان يعرفهم، مشيرا إلى أن معظمهم كانوا من الشباب القادمين من بلجيكا وهولندا، وسافروا إلى سورية من أجل القتال ضد قوات الأسد وحزب الله والقوات الإيرانية، وأضاف "جميع هؤلاء عاشوا في دول غنية ومسالمة، بينما قام آلاف السوريين بدفع مبالغ ضخمة من أجل تهريبهم إلى أوروبا حتى يفروا من الحرب، وهؤلاء المقاتلون سافروا طوعا إلى الاتجاه المعاكس تماما". أضاف أبو أحمد في حديثه إلى المجلة أنه صدم بعد انكشاف واقع الملتحقين بالتنظيم من أوروبا، فبعد أن كان ينظر إليهم على أنهم ضحو بالغالي والنفيس من أجل نصرة السوريين وضحوا بكل شيء يمتلكونه، وجدت أن مجموعة منهم عبارة عن مجانين. وبالنسبة لهم فإن "الجهاد" في سورية عبارة عن مغامرة، أو طريقة يتوبون فيها عن حياتهم الآثمة التي قضوها في حانات ومراقص أوروبا، وهذا لا ينفي أن بعضهم كانوا بالفعل متدينين في حياتهم في أوروبا". بداية التفكك يشير أبو أحمد إلى أن انفصال جبهة النصرة وداعش كان أحد الأحداث التاريخية في الحرب السورية، وأن هذا الانفصال تسبب في انقسامات ضخمة بين صفوف المعارضين لبشار الأسد، وبرزت قوة جديدة يقودها أبو بكر البغدادي، طغت فيما بعد على تنظيم القاعدة. في منتصف شهر أبريل من عام 2013، قال أبو أحمد إنه لاحظ وقوف سيارة محمرة غامقة اللون، أمام مقر مجلس شورى المجاهدين، وهي جماعة متشددة يقودها أبو الأثير، في منطقة كفر حمرة، شمال سورية. وأن أحد القيادات المتطرفة همس في أذنه قائلا "ألقي نظرة جيدة على من بداخل السيارة". وبعد خروج الرجال من السيارة ودخولهم إلى مقر مجلس الشورى، همس صديقه في أذنه مرة أخرى قائلا "لقد رأيت للتو أبوبكر البغدادي". نظرية المغناطيس بالرغم من تردد الكثيرين في فكرة إنشاء دولة محددة في مواقع معلومة، إلا أن أبو بكر البغدادي أصر عليهم، وتمسك برأيه. مشيرا إلى أن تأسيس وحكم دولة كان من الأهمية بمكان بالنسبة له. وحتى الآن ما زال المجاهدون يتجولون دون أن يسيطروا على أراضيهم. لذلك طالب البغدادي بالحدود والمواطنين ومؤسسات الدولة، ونظام إداري فعال. وكان لدى البغدادي حجة أخرى: أن الدولة ستكون موطنا للمسلمين من جميع أنحاء العالم. ولأن القاعدة كانت دائما مختبئة فقد صَعبَ على المسلمين العاديين الانضمام إليها. ولكن وجود دولة إسلامية في رقعة جغرافية معلومة سوف يستقطب آلاف وربما ملايين الأشخاص، الذين يتشاركون في نفس التفكير المتشدد، وأن هذه الدولة سوف تكون مثل المغناطيس. وقال أبو أحمد "البغدادي وقادة المجاهدين الآخرين قارنوا ما فعلوه مع هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة". وبعد عِدة أيام من النقاش، وافق كل المشاركين على خطة البغدادي. وكان شرطهم الوحيد الذي أرادوه منه هو: أن على الدولة التي تم تأسيسها حديثا أن تعلن تعاونها الكامل مع جبهة النصرة وأحرار الشام. ووافق البغدادي على هذه الشروط. ومن بين الأجانب الذين قابلوا البغدادي شخصيا وبايعوه أبو سيف المعروف بـ"الذباح"، والجِهادي البلجيكي أبو زهير، والجِهادي الفرنسي الذي قتِل في يوليو 2014، أبو تميمة الفرنسي، والجِهادي الأشقر الوسيم المطلوب في بلجيكا، أبو شيشان البلجيكي. يقول أبو أحمد "في وقت آخر من ذلك اليوم، قام الأوروبيين الذين كانوا حتى وقت قريب مجرمين في أمستردام وبروكسل وباريس بمبايعة البغدادي. ظهور حجي بكر رغم تناقض الروايات عن دور حجي بكر، في تنظيم داعش، إلا أن رواية أبو أحمد تؤكد ضلوعه في تأسيس التنظيم، والمكانة التي كان يتولاها داخله، ويقول أبو أحمد إنه طيلة خمسة أيام، كان البغدادي يأتي في الصباح مع نائبه حجي بكر، يزورون مجلس شورى المجاهدين في كفر حمرة، وفي المغرب يغادرون. وخلال هذه الفترة ناقش البغدادي مجموعة من قادة المجاهدين في سورية، بشكل مكثف. ومعظمهم كانوا من الرجال المطلوبين في العالم. ولطالما تساءل أبو أحمد عن سبب قدوم البغدادي من العراق إلى سورية، والغاية من وراء اجتماع كل هؤلاء القادة معه، وما الأمر المهم الذي ناقشه البغدادي بنفسه لعدة أيام. إلا أنه ربط هذه التساؤلات بالخطاب الذي ألقاه البغدادي قبل اجتماع كفر حمرة بقليل. في 8 أبريل عام 2013، عندما أعلن أن تنظيمهم سيتوسع ليشمل سورية. وأن على جميع الجماعات "الجهادية"، بما في ذلك تنظيم النصرة، أن يخضعوا لحكمه. وأكد أحد المشاركين في النقاشات لأبو أحمد ذلك بقوله "على الشيخ الموجود هنا أن يقنع الجميع بالتخلي عن جبهة النصرة والجولاني. وبدلا من ذلك عليهم أن ينضموا إليه ويتم توحيدهم تحت راية تنظيم الدولة، التي ستكون قريبا دولة". خلع البيعة خلال الاجتماعات، واجه البغدادي مشكلة كبيرة في تحقيق هدفه. حيث أوضح الأمراء أن أغلبهم قد تعهدوا بولائهم لأيمن الظواهري، وبايعوه عقب مقتل أسامة بن لادن، فكيف لهم أن يتخلوا عن تنظيم القاعدة فجأة وأن يبايعوا البغدادي؟ ووفقا لأبو أحمد فقد سأل بعض القادة البغدادي خلال الاجتماع: هل بايعت الظواهري؟ فأجابهم بأنه بالفعل قد فعل ذلك، وتعهد بولائه ولكنه لم يقل ذلك علنا وذلك تحقيقا لطلب الظواهري. ولكن البغدادي طمأن الرجال بأنه يتصرف تحت أوامر زعيم تنظيم القاعدة. لم يتملك الجهاديون أي وسيلة للتحقق مما إذا كان ما قد قاله صحيحا. حيث كان من الصعب جدا التواصل مع الظواهري، فهو لم يظهر أمام الجميع منذ سنوات، وما زال مختبئا، ربما في باكستان أو أفغانستان. ولاء مشروط ولأن الظواهري كان غير قادر على تسوية هذا الخلاف بنفسه، كان على القادة المتشددين أن يقرروا ذلك بأنفسهم. واتفقوا على أنه إذا تصرف البغدادي بالنيابة عن الظواهري، فلا وجود لأي شك في أن عليهم اتباع أوامره للانضمام لداعش. ولكن لو كان البغدادي قد تصرف بما تمليه عليه نفسه، فإن خطته للسيطرة على تنظيم جبهة النصرة والجماعات الأخرى كانت تصرفا متمردا. لذللك قام القادة بإعطاء البغدادي ولاءهم المشروط. وقال أبو أحمد "قالوا له: إذا كان ما قد قلته صحيحا وتنفذ توجيهات الظواهري فإننا سندعمك". اعتراضات مبررة اختلف المشاركون حول فكرة تأسيس دولة في سورية. وطوال فترة وجود القاعدة فقد كانت تعمل في الخفاء دون وجود دولة محددة لها. ولم يقم التنظيم بالسيطرة علنيا على أي منطقة أو أرض معينة، بدلا من ذلك فقد كانت يقوم بأعمال العنف من أماكن مجهولة. إذا فقد كانت المحافظة على التنظيم كمنظمة سرية ذا مصلحة عظيمة له، وجنبه مزالق وشرورا كثيرة، وكان من الصعب على أي عدو أن يجد أعضاءه أو يهجم عليهم أو يدمرهم. ولكن بتأسيس دولة سيكون من السهل جدا على الأعداء أن يعرفوا مكانهم وبالتالي يهاجمونهم ويقصفون مواقعهم ويدمروهم. قال أبو أحمد إن أبو عمر الشيشاني كان مترددا حول فكرة تأسيس دولة. وقال للمجتمعين إنه كان هنالك أكثر من سبب وراء اختباء أسامة بن لادن طوال تلك السنين، كي يتجنب أن يقتله الأمريكان. الإعلان عن تأسيس دولة سيكون بمثابة دعوة للأعداء كي يهاجموهم. تبديل الهوية أشار أبو أحمد إلى أن التحول من مسمى "الدولة الإسلامية في العراق" إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، يعني أن كل الجماعات التي انضمت إلى داعش ستتخلى عن أسمائها. بالنسبة لجبهة النصرة وقائدها، أبو محمد الجولاني، فإن هذا التطور كان كارثة محتملة، فهي نهاية سلطتهم في أهم بقعة بالنسبة لهم في العالم. لذا أمر الجولاني جيشه بعدم الانضمام إلى "داعش"، حتى يصدر الظواهري أمرا حول هوية "زعيم الجهاد" في سورية. إلا أن غالبية كبيرة من قادة النصرة وجيشها لم ينصاعوا لذلك التوجيه، وعندما زار أبو أحمد مدينة حلب بعد أسابيع من ذلك اتضح أن حوالي 90% من المقاتلين في المدينة قد انضموا إلى داعش. سلطة الأمر الواقع أمر جنود البغدادي الجدد بإخراج المتبقين القليلين من الموالين للنصرة من مستشفى العيون، الذي كان حتى ذلك الحين قاعدة رئيسية لتنظيم جبهة النصرة في المدينة. وقالوا لمقاتليها "عليكم أن تغادروا، نحن من الدولة الإسلامية وغالبيتنا تطغى على معظم المقاتلين. والآن أصبح هذا المقر ملكا لنا". وهكذا استولى داعش على مقرات النصرة وذخائرها ومخازن أسلحتها في كل مكان من شمال سورية. والأمر المثير للدهشة هو أن المنظمة التابعة لتنظيم القاعدة في سورية فجأة بدأت بالقتال من أجل بقائها. وقد بدأ عصر جديد، عصر تنظيم الدولة الإسلامية. ميدان العقاب من جملة اعتراضات أبو أحمد على تصرفات "داعش"، عقوبة نفذها "داعش" في مدينة الباب شمال سورية، إذ وضع قفصا وسط المدينة المعروف بميدان الحرية، وذلك من أجل معاقبة المواطنين السوريين الذين ارتكبوا جرائم بسيطة مثل بيع السجائر. وقال أبو أحمد، أن الجماعة سجنت السوريين في القفص 3 أيام في كل مرة مُعلقة على أعناقهم لافته توضح الجريمة التي ارتكبوها. وميدان الحرية معروف بميدان العقاب. أعتقد أن هذا النوع من العقاب يشوّه صورتنا، إذ إنه يجعل من "داعش" مرعبا أكثر من كونه محبوبا من السُنّيين، و هذا ليس في صالحنا على الإطلاق".