إن لكل منا فلسفته الخاصة , التي هي حصيلة ما ورثه من صفات المُحيطُ الذي نشأ فيه , والذي اختلط معه وما به , وكذلك ما اكتسبه من احتكاكه مع من تعامل معهم , وكذلك علمه وثقافته . فهذه كلها مكتسبات لفكره , فيبدأ بتطبيق هذه الصفات وهذه الخصائص على من يتعاشر معهم أو يترابط بهم في تعاملاته , فمن هنا يظهر لون لهذا الخليط , فيجعله مختلفاً , في منهجه وتفكيره عن غيره ؛ لأن في طبيعتنا البشرية صفاتٍ وخصائص كثيرة ومتباينة , فمنَّا مَن يدرك الأمور ويفسرها بذكاء قبل أن تقع ؛ وهذه موهبة من الله ـ عز وجل ـ يخصُّ بها بعض البشر , ومنَّا من لا يدرك الأمر إلا بعد وقوعه ويصبح أمراً واقعاً , وبالتالي فقد لا يحسن التَّصرف في مواجهة الأمور والتَّعامل معها بالطريقة الملائمة . إنَّ الإختلاف بين البشر في العلاقات الحسيّة والإنسانية والاجتماعية ظاهرة حقيقية وأمر منطقيّ وطبيعيّ ؛ ولكن طبيعة هذه الحقائق تختلف من شخص لآخر , فقد يوجد منّا من يشعر بأن أمراً ما قد يحدث في موضوع معين بما لديه من خصائص الشَّفافية وحسن الإدراك , فيعمل جاهداً على تفسير هذا الأمر قبل وقوعه , ومنَّا أيضاً من لا يبالي بالأمور ويدع بوادرها تمرُّ دون أن يقف عندها أو يوقفها , وقد يكون في هذا خطر على نفسه وعلى الآخرين , وكلٌ من هذا وذاك له وجهة نظر . وإذا أردنا أن تكون العلاقات بيننا قوية ومتينة ومتداخلة ؛ فإنَّ الاختلاف في الآراء يجب أن يقف عند حدود الاختلاف , ولا يصل إلى حدود الخلاف والشِّقاق , وكذلك يجب على كل منا ألا يفسر الأمور بمنظوره الذي قد يكون مخطئاً لكيلا تتأثر العلاقة بيننا ؛ لأن ما ينتج من قرارات عن هذا التفسير قد لا يؤثر على جانب واحد فقط , بل ربما يؤثر على الجانبين معاً , وهذا ما يسمى بالخوف على المصلحة العامة في العلاقة , ولكن قد نرى بعضاً من الناس يصرُّ على رأيه وموقفه حتى ولو كان خطأ , وهنا سوف يحدث تصدُّعٌ للعلاقة , ويبتعد من يدرك الأمور بعين واعية فاحصة ؛ خشية أن يلحقه الضرر من وراء ذلك المتعصب لرأيه , المتمسك به , والذي لا يدرك الأمور إلا بعد وقوعها . وبما أن العلاقات كثيرة ومتشابكة بين البشر فيجب أن نعمل على أن تكون علاقات الصداقة والأخوة والعمل والمصالح علاقات قوية وسامية , وعلينا الاحتفاظ بها صافية نقية , وأن نحافظ عليها بكل السبل وبالطريقة التي تصحح المفهوم . ويجب ألا تُستغل هذه المفاهيم والعلاقات التي بيننا لأغراض غير بريئة , وألا يكون الهدف منها تحقيق مصلحة ذاتية .. وكما قالت الحكمة : فليس منَّا الذي يسعى لمصلحة فردية ولو على أكتاف إخوان وليس منَّا الذي في قلبه مرضٌ أو لوثةٌ من لَظَى عَبْس وذُبْيَانِ فلا تسعَ إلى بناء صداقة مع شخص ما وأنت داخلياً لا تنوي تحقيق صداقة فعلية , وإنما تحقيق مآرب شخصية , وقد تتحقق المآرب ولكن سرعان ما يكتشف الصديق ما فعلته فيغضب منك , وتفقد ثقته بك , وقد تعود إليه في يوم ما .. ولا تتعجَّب عندما أقول : قد تعود إليه في يوم ما ؛ لأنَّ العلاقات بين الناس متشابكة ومتداخلة ! , ومع اختلاف الآراء ووجهات النظر بين أي طرفين يجب أن يعلم كلٌّ منهما أن أحدهما قد يكون على صواب والآخر قد يجانبه الصواب , أو قد يكون الاثنان على صواب ؛ ولكن وجهة نظر أحدهما هي الرأي الأصحّ والأقوى , أما المشكلة الكبرى التى تقف أمامها مكتوف اليدين : هي في صديقك الذي أدلى برأيه ولم تسايره على هذا الرأي أو هذا السُّلوك أو هذه السياسة التي يسير عليها؛ لأنها خطأ وتفتقر إلى المصداقية , وهو يريد منك أن تجاريه عليها , ماذا تفعل عندما تخبره بأن هذه السياسة أو هذا الرأي يفتقر إلى بُعد نظر , ولا تتوفر فيه الحكمة ولا الحنكة ؟ ماذا تفعل لو اعتُبِر هذا عداء منك له وانتقاصاً لشخصه ؟ والأدهى والأمَرّ أنه يتهمك بالتعالي عليه !! وهنا تكمن المشكلة فيه وحده , فهو بداخله يقول عنك : إنك متعالٍ , وإنَّ عدم تجاوبك معه يعتبره تجاوزاً في حقه , وحقيقة الأمر أنه غير مدرك لما يدور حوله .. إنها مشكلة صعبة !! , وتزداد صعوبتها وحرجها وحساسيتها عندما تكون معاشرتك مع هؤلاء وثيقة , وارتباطاتك بهم قد تكون ضرورية .. حقاً إنها مشكلة صعبة !! مثل هؤلاء لا يعقلون ولا يدركون ما يدركه ويعقله العقلاء ذوو الخبرة في الحياة , فهذه مشكلتهم , وليس للآخرين ذنب فيها ؛ لأنهم يفسرون الأمور كما يحلو لهم , ومثل هؤلاء دائماً يتخذون قرارات خاطئة وغير سليمة , وبذلك يصبحون بعدها نادمين ومتأسِّفين عمَّا صدر منهم بعدما يكون قد سبق السَّيف العذل !!