تتناقل بعض وسائل الإعلام مشاركاتي المستمرة في المنتديات والمؤتمرات العالمية، لا سيما المنتدى الاقتصادي الدولي الذي يعقد كل عام في مدينة دافوس في سويسرا، والمؤتمر الأمني الدولي الذي يعقد في مدينة ميونخ الألمانية كل عام بعد مؤتمر دافوس. ولأنها مؤتمرات دولية مفتوحة أمام الجميع، فإنني أحياناً أدخل في نقاش أو أجيب على أسئلة يطرحها علي بعض الحضور من الإسرائيليين سواءً كانوا موظفين حكوميين أو ليسوا كذلك. وقد أثارت هذه المشاركات ردود أفعال مختلفة حول جدواها وصحتها. لذا فإني أحب في هذه المقالة إيضاح وجهة نظري، فإن كانت صواباً فهي من الله –عز وجل- وإن كانت خطأً فهي مني ومن الشيطان. فلا يخفى على الجميع المعاناة والظلم الواقعين على إخواننا الفلسطينيين، من حروب غاشمة واحتلال ظالم وتهجير واستيطان غير مشروعين، وقد بذلت المملكة العربية السعودية جهوداً حثيثة في دعم القضية الفلسطينية منذ عهد المغفور له الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - وحتى عهد سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز –يحفظه الله- وذلك ضمن رؤية واضحة وصادقة وشاملة تضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، كحق تقرير المصير، وعودة اللاجئين، وإيقاف الاستيطان، وإلغاء الاحتلال والاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة استقلالاً كاملاً وعاصمتها القدس الشريف. ولهذا كانت مبادرة سيدي خادم الحرمين الشريفين عندما كان ولياً للعهد، والتي أطلقها عام 2002م وتبنتها الدول العربية جميعاً، وأصبحت تعرف بمبادرة السلام العربية، ممثلة لهذه الرؤية الاستراتيجية السعودية، ولحكمة سيدي خادم الحرمين ورؤيته الاستراتيجية وشجاعته الأخلاقية في الدفاع عن الحق الفلسطيني. إن المبادرة العربية، كما أؤمن بذلك، هي المخرج الوحيد للمأساة الفلسطينية، فهي تضمن الحقوق الأساسية للفلسطينيين من إقامة دولة مستقلة، عاصمتها القدس، وعودة اللاجئين، وفي المقابل فهي تقدم السلام الشامل والتطبيع مع إسرائيل. وقد أخذت هذه المبادرة أهميتها الكبرى كونها انطلقت من المملكة العربية السعودية، التي لا يمكن أن يكون هناك حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية إلا بدعم كامل ومباشر منها، لأن المملكة العربية السعودية بقيادتها الحكيمة هي الدولة الوحيدة التي تستطيع توفير المشروعية لهذا الاتفاق مع ضمان حق الفلسطينيين. وأنا أستحضر في هذا المقام كلمة لكبير المفاوضين الفلسطينيين السيد صائب عريقات، عندما كنا مشاركين معاً في إحدى جلسات منتدى دافوس، حيث التفت نحوي وقال –أمام الجميع ومن ضمنهم إسرائيليون-: "نحن الفلسطينيين نشكر خادم الحرمين الشريفين على مبادرته، لأنها الحل الوحيد لضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة". ولأن هذه المبادرة هي الحل الوحيد والشامل والقابل للتطبيق، فقد سببت إحراجاً دولياً كبيراً للإسرائيليين، فهم لا يستطيعون إعلانهم لرفضها، ولكنهم استمروا على تجاهلها، لأن الحديث عنها سيلزمهم بقبولها. ولهذا كانت مشاركاتي الدولية دائماً هي للدعوة لتطبيق هذه المبادرة، وبيان تهرب الإسرائيليين وعدم جديتهم في إيجاد حل للقضية الفلسطينية، وهو ما يسبب للإسرئيليين الحرج، ويضعهم تحت ضغط دولي كبير. وفي جميع كلماتي ولقاءاتي فإني ملتزم بالمبادئ الشرعية والوطنية والعربية في الدعوة إلى رفع الظلم عن الإخوة الفلسطينيين، والتأكيد على أن المبادرة العربية هي الحل الوحيد الممكن لمصلحة الفلسطينيين وكذلك الإسرائيليين الذين يجب أن يعلموا أن مستقبلهم مرهون بقبولهم بالدولة الفلسطينية وكافة الحقوق المشروعة للفلسطينيين كما أوضحتها المبادرة العربية. ولأن لصاحب الحق مقالاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت جميع حواراتي ونقاشاتي مع الشخصيات الإسرائيلية التي يصدف أن ألتقيها في المؤتمرات الدولية، هي لقاءات علنية أمام الناس، وأرفض دائماً أي لقاء أو حوار يكون وراء أبواب مغلقة، لأننا أصحاب حق وسلام، وقوتنا مستمدة من إيماننا بالله –عز وجل- ومن إيماننا بعدالة قضيتنا. وهذا الحوار والنقاش ضمن المبادرة العربية، لا يخرج عن الثوابت الشرعية والوطنية ولنا في تحاور نبيي الله موسى وهارون –عليهما السلام- مع عدوهما فرعون وتفاوضهما معه لرفع الظلم عن قومهما، وكذلك أنبياء الله ورسله جميعاً الأسوة الحسنة والمثال الأمثل لكيفية التحاور مع الأعداء والمناوئين. وقال الإمام ابن حزم: "وقد أمرنا الله –تعالى- في نصَ القرآن باتباع ملة إبراهيم –عليه السلام- وخبرنا –تعالى- أن من ملة إبراهيم المحاجّة والمناظرة.. والاستدلال، كما أخبرنا تعالى عنه. ففرض علينا المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق، وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون.. فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاصٍ لله –عز وجل- ومخالف لملة إبراهيم ومحمد –صلى الله عليهما-". وكانت سيرة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خير مثال في الحوار مع شتى الطوائف والتفاوض معهم على رفع الظلم وتحقيق العدل ما أمكن ذلك، مع جنوحه الدائم إلى مبدأ السلم، التزاماً بقوله تعلى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها). وعندما كانت عملية المفاوضات للوصول إلى السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أشدها عام 1414ه، أفتى بعض الناس بتحريم المشاركة في هذه المفاوضات، ورد عليهم الشيخ عبد العزيز بن باز –رحمه الله- بأكثر من فتوى، قدم نصحه لجميع الفصائل الفلسطينية بقبول المفاوضات للوصول إلى الصلح، فقال: "ننصح الفلسطينيين جميعاً بأن يتفقوا على الصلح، ويتعاونوا على البر والتقوى، حقناً للدماء، وجمعاً للكلمة على الحق، وإرغاماً للأعداء الذين يدعون إلى الفرقة والاختلاف"، وكذلك رد على الذين زعموا أنه لا يجوز التفاوض ولا الحوار ولا الصلح مع العدو الذي يغتصب الأموال والأرض، فقال: "إن قريشاً قد أخذت أموال المهاجرين ودورهم، كما قال الله سبحانه في سورة الحشر: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) ومع ذلك صالح النبي -صلى الله عليه وسلم قريشاً- يوم الحديبية سنة ست من الهجرة، ولم يمنع هذا الصلح ما فعلته قريش من ظلم المهاجرين في دورهم وأموالهم؛ مراعاة للمصلحة العامة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم". وفي إشهاري لمبادرة سيدي خادم الحرمين الشريفين أمام الإسرائيليين في المحافل الدولية أداة لتسليط الضوء على رفضهم للسلام، وأنه لا تطبيع معهم إلا بعد أن يقبلوا المبادرة، ويعيدوا الحق الذي سلبوه إلى الشعب الفلسطيني وإلى لبنان وسوريا. وهنا أختم بنصيحة الإمام ابن باز التي كتبها في فتواه، حيث دعا الجميع إلى النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية، لا على العاطفة والاستحسان.