للشعوب الحية قادة مخلدون يفتخرون بهم . وقلما يولد في عالمنا قادة تتجاوز شعبيتهم وشهرتهم اطر حدود بلادهم ليصبحوا ايقونة انسانية تعتز شعوب العالم بهم وتبقى اسماؤهم لامعة في كتب التأريخ وتسمى شوارع مدن العالم تيمنا باسمائهم واحتفاء بهم وبتأريخهم المجيد. فهؤلاء القادة اكتسبوا حب شعوبهم وشعوب العالم لأنهم سلكوا درب النضال المحفوف بالمخاطر وتعرضوا لشتى اساليب القهر لكسر شوكة عزيمتهم لكنهم ظلوا مثابرين شجعان وكما وصف مانديلا درب الانعتاق:"ليس هناك درباً سهلاً للحريّة، وعلى العديد منا سلوك وادي ظلال الموت مراراً وتكراراً قبل أن نصل إلى القمة التي نبتغيها". وفي 5-12-2013 التحق بهذا الركب مقدام اخر .. مناضل صلب، قضى سبعة وعشرين عاما خلف قضبان العنصريين الذين احتلوا بلاده للأكثر من ثلاثة قرون وسرقوا خيرات افريقيا من ذهب وفضة ونفط ومعادن ثمينة. لم تتمكن الظروف الصعبة لسجن جزيرة روبن من التأثير على العزيمة الفولاذية لمانديلا فظل سائرا على دربه قدما لتحقيق امال شعبه في التحرر والانعتاق من سياسة الفصل العنصري البغيض. وعندما تمثل امام المحكمة العنصرية عام 1964 في جنوب افريقيا مواجها حكم الاعدام ، وقف مانديلا هادرا مدافعا عن قضية شعبه بشجاعة قائلاً:لقد حاربت ضد هيمنة البيض وحاربت ضد هيمنة السود، وأثمن قيمة وجود مجتمع ديمقراطي حر يعيش فيه الجميع في تناغم وفي ظل فرص متساوية.. إنها قيمة أتمنى أن أعيش من أجلها وأن أحققها، ولكن إذا ما استدعت الضرورة، فإنني مستعد للموت من أجلها". وفي عام 1994 انتخب اول رئيس اصيل في جنوب افريقيا. وكان قد رفع من سجنه شعار الديمقراطية والمساواة ففرض هذا النهج على العنصريين من المحتلين لبلاده. وفي اول انتخابات ديمقراطية شارك فيها البيض والسود جنبا الى جنب انتخب مانديلا رئيسا حقيقيا لبلاده بكافة مكوناته. كان التعايش السلمي أحلى ثمار حياته وقد ترجم رؤياه الانسانية عندما تولى مقاليد الحكم في بلاده. مستعينا بقلبه الكبير استطاع ان ينتصر على ماضي الأحقاد ونبذ العنف، ودعا الى المصالحة واشاعة روح العفو والإرتفاع على الجراح والضغائن. فاستجاب الشعب لدعوته فاصبح مانديلا ابا لافريقيا الجنوبية الحديثة. ولم يبق في المنصب سوى فترة رئاسية واحدة ثم اعتزل العمل السياسي الى حد كبير منذ 2004 لحين رحيله يوم 5-12-2013. اصبح مانديلا رمزا للصلابة ووضوح الرؤية وياقونة للتحرر الوطني الديمقراطي وملهما للمقاومة والاقدام والنزاهة والتواضع في العالم. عاش ومات في بيته المتواضع في جوهانسبرغ عفيفا بلا حسابات في بنوك بلاده او بنوك العالم. نال جائزة نوبل للسلام عام 1993. كان الفقيد مناصرا لقضايا الشعوب التواقة للحرية وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني المجاهد فكان مثالا ثوريا يقتدى به . وقبل اشهر من وفاته 30-6-2013 اصطحب الرئيس الامريكي ، اوباما لزيارة السجن الذي قضى بين اسواره خيرة ايام شبابه. ان تواضع مانديلا وعفته عن المطامح الدنيوية وتعاطفه مع الفقراء والمقموعين اكسبه حب العالم له. وساعة رحيله الى مثواه الاخير خاطب الرئيس الحالي جاكوب زوما شعبه قائلاً:"رغم اننا كنا نعلم بان هذا اليوم سيأتي فان شيئا لا يستطيع ان يخفف الاحساس بالخسارة العميقة". ومن جانب اخر قال السيد فريدريك دي كليرك اخر رئيس جمهورية ابيض للنظام العنصري في جنوب افريقيا في مقابلة معCNN يوم وفاة مانديلا:"إن اكبر انجازات مانديلا كان توحيد جنوب افريقيا وبث روح المصالحة بين السود والبيض في عهد ما بعد سياسات التمييز العنصري".