عيوبُ الاختبارات تجعل المنحنى يتَّخذ شكلاً ملتوياً، فالالتواء الإيجابيُّ دلالة قاطعة على سهولتها وسهولة تصحيحها أو الغشِّ بها، وعلى ضعف مناهجها الدراسيَّة، والالتواء السلبيُّ يدلُّ على صعوبتها وعلى ضعف إعداد الطلاب صُمِّمَ التعليمُ في بلادنا بمراحله كلِّها ليتناسبَ مع ذوي القدرات العقليَّة المتوسِّطة والمهارات التعليميَّة الوسطى، فعُطِّلتْ القدراتُ العليا والمهارات الأعلى لدى أصحابها من طلابنا بسقفٍ تعليميٍّ أدنى ممَّا حباهم الله تعالى بها، وهذا ما يصيب كثيرين منهم بالإحباط؛ لعدم تحقيق ما يتناسب معها، فأيُّ مجتمعٍ دراسيٍّ يتكوَّن من ذوي القدرات والمهارات العالية بنسبةٍ 10 – 15 %، فيما تماثلها نسبةٌ لذوي القدرات والمهارات الدنيا، وبينهما نسبة 70 % للقدرات المتوسِّطة سواء أكان هذا ببلادِنا أم كان ذلك ببلادٍ متقدِّمة تعليميّاً، ويبقى الفرقُ بيننا وبينهم في التعليم هو أخذ مصمِّمي تعليمهم والمخطِّطين له مناهجَ دراسيَّة وطرائقَ تدريس وأنظمةً ومعاييرَ قياسٍ تحصيليٍّ وحوافزَ باعتبارهم الفئةَ العليا للوصول بهم لأقصى طاقاتهم وقدراتهم التعليميَّة والبحثيَّة تحصيلاً وإبداعاً، فيما يأخذ مصمِّمو تعليمنا والمخطِّطين له في ذلك كلِّه باعتبارهم الفئةَ الوسطى لتقليل نسب المتسرِّبين من التعليم ليس إلَّا، وهذا لا يحقِّقُ بالتقدُّم إضافاتٍ تعليميَّة وعلميَّة تبني الوطنَ بحثاً واكتشافا. وفي ضوء ذلكَ تأتي نتائجُ الاختبارات إذا كان عدد الطلاب كبيراً متمشيةً مع منحنى التَّوزيع العاديِّ، فعيوبُ الاختبارات تجعل المنحنى يتَّخذ شكلاً ملتوياً، فالالتواء الإيجابيُّ دلالة قاطعة على سهولتها وسهولة تصحيحها أو الغشِّ بها، وعلى ضعف مناهجها الدراسيَّة، والالتواء السلبيُّ يدلُّ على صعوبتها وعلى ضعف إعداد الطلاب واستعداداتهم كاشفاً عن تقصيرهم أو تقصير معلِّميهم، أو عن قوَّة مناهجهم الدراسيَّة بما تفوق قدراتهم ومهاراتهم، ولهذا تنبَّهتْ دولُ متقدِّمة تعليميّاً فصنَّفتْ طلاَّبَها بقدراتهم ومهاراتهم منذُ مساراتهم التعليميَّة الأولى فأوجدتْ مدارس بأنظمةٍ ومناهج دراسيَّة تناسب فئاتهم، فكانت لديهم مدارسُ نموذجيَّة تفرزُهم ومدارسُ متقدِّمة تستقبل ذوي القدرات والمهارات العالية فترعاهم وتنمِّيها، فمن بينهم مَنْ يُنْتَظَرُ نهوضهم علميّاً وبحثيّاً وعمليّاً ليرتقوا بدولهم حضاريّاً، وهم لا يزيدون في مجتمعاتهم عن نسبة 5 % من متعلِّميها، ولكنَّهم قادرون على جعل أوطانهم متقدِّمة، وعلى اضطلاعهم بإضافات علميَّة وباكتشافات إبداعيَّة تحقِّق تقدُّمها، فيما يوجَّه بقيَّة الطلاب لتعليمٍ تقنيٍّ ومهنيٍّ وخدميٍّ تحتاجه أوطانهم ولا يتطلَّب قدراتٍ عالية ومهارات متقدِّمة. وفي ضوء ذلك ناديتُ بتصنيف طلابنا حينما كنتُ مشرفاً تربويّاً بدراساتٍ وبمقالاتٍ، وطرحتُه في ملتقى موهبة الجامع مشرفيها بمدرِّبيها وطلاَّبها المشاركين بأولمبياد الرياضيَّات وأولياء أمورهم بعد إنهاء تدريباتهم للمسابقة الدوليَّة حيث شارك ابني هُمام في فريق وطنه فجاءت مداخلتُه مقارنةً بين مدرسته الثانويَّة في محافظة عنيزة وبين ثانويَّة دار العلوم الأهليَّة بالرياض، حيث درس الفصل الأخير من تعليمه الثانويِّ منقولاً إليها ليكونَ وزملاؤه قريبين من مركز تدريباتهم المسائيَّة لأولمبياد الرياضيَّات الدوليِّ، قارن بينهما مشيراً لاحتياجاتهم كطلابٍ لديهم قدراتٌ ومهاراتٌ عليا لتعليمٍ متميِّز، فهم لا يبحثون عن الأسهل وإنَّما عن سقف أعلى يستثمر قدراتهم وطاقاتهم فالمنافسة التعليميَّة تتجاوز التلقينَ والحفظ بتعليمهم في محافظاتهم. وبناءً على قدراته وطموحاته وتحقيقه المركز الأول في المرحلة الثانويَّة ولمشاركته بأولمبياد الرياضيَّات الدوليِّ حاولتْ كلٌّ من جامعة الملك عبدالله (كاوست)، وجامعة الملك فهد، وشركة سابك استقطابه، فاختار جامعة الملك عبدالله التي خطَّطتْ لابتعاث متفوِّقين من الثانويَّة العامَّة لدراسة مرحلة البكالوريوس بدول متقدِّمة بجامعاتها المتقدِّمة بترتيبها عالميّاً بتخصُّصاتٍ تهتمُّ بها كاوست؛ ليعودوا لاستكمال دراساتهم العليا في الماجستير والدكتوراة فيها لزيادة أعداد طلابها السُّعوديِّين ممَّن لديهم المؤهَّلات العلميَّة العالية لتحقيق مخرجات بحثيَّة ذات جودةٍ عالميَّة، ترفع من مستوى المخرجات البحثيَّة العلميَّة السعوديَّة، ولذلك اشترطتْ عليهم تحقيق معدلات 3,5 من 4 كلَّ فصلٍ دراسيٍّ، والتخرجُّ بمعدلات نهائيَّة أعلى منه، والمشاركة بمشروعاتٍ بحثيَّة بجامعاتهم أو بجامعات أمريكيَّة أخرى أو بجامعة كاوست، وتحثُّهم على حضور جميع الملتقيات والندوات العلميَّة ذات العلاقة بتخصصاتهم أثناء دراستهم أيّاً كان مكانها بأمريكا مقدِّمة لهم دعماً ماديّاً يصل لألفِ دولار شهريّاً علاوة على ما تدفعه الملحقيَّة السعوديَّة للمبتعثين، ووفَّرت لهم فريقاً إشرافيّاً أكاديميّاً أمريكيّاً متخصِّصاً مستقلَّا عن الملحقيَّة تتابعه جامعة كاوست؛ لتقييم مخرجاتهم كلَّ فصل دراسيٍّ فيرسل شهادة تشجيعية لمتفوقيهم ولجامعة كاوست. وفي ضوء اشتراطات جامعة الملك عبدالله وحوافزها وفريقها الإشرافيِّ فإنَّ ابني همام بعد اجتيازه السنة التحضيريَّة وبمعدَّلها كاملاً درس الرياضيَّات والحاسب الآلي التطبيقيِّ معاً في جامعة كرونيل المتقدِّمة بترتيبها بهذين التخصُّصين أمريكيّاً وعالميّاً والمحفِّزة لطلابها ليبذلوا جهودهم باستثمار قدراتهم فتخرَّج بمعدَّلٍ كامل، وأتاحتْ له جامعته الفرصةَ ليستكملَ تخصُّصيه بمواد إضافيَّة ليتخرَّج ببكالوريوس مع مرتبة الشرف العليا في كلٍّ منهما، وحضرتُ وأمُّه وأختاه حفلي تخرُّجه العام على مستوى جامعته والخاص على مستوى تخصُّصه فكان أسعد أيَّامنا جميعاً، واستقطبتُه شركة أمزون للعمل فيها مهندساً لبرمجيَّاتها الحاسوبيَّة في العطلة الصيفيَّة بمميزات عديدة، ولثقتي بعودته لخدمة وطنه ولاستكمال دراساته العليا في جامعة كاوست باركتُ ذلك، وها هو يعود لوطنه يوم نشر هذه المقالة. وأحسب أنَّ قدراته ومهاراته التي حباه الله تعالى بها فأوصلته لذلك متفاعلاً مع تربيتي حيثُ درَّبتُه منذ طفولته على إستراتيجيَّات تنمية مهارات التفكير التي أعددتها فدرَّبتُ المعلِّمين عليها أملاً بأن ينقلوها لطلابهم، فقد درَّبتُ أولادي كلَّهم عليها، إضافة لتربيتهم على الحوار وآدابه، وزرعتُ بهم الطموح وتربية الذات وتحمُّل المسؤوليَّة ورسم الخطط بأهدافها والاستقلاليَّة باتِّخاذ القرارات الشخصيَّة بعد استشاراتي، وعلى التطوُّع والخدمة الاجتماعيَّة، باعتبارها مهاراتٍ تنقص تعليمنا، وهكذا حقَّقوا ما لم أحقِّقه في تعليمي وإن شاء الله سيحقِّق ابني بدراساته العليا ما حلمتُ به، مَوضوعٌ عام ضَمَّنْتُه رُؤْيَةً وتَجْرِبةً ترْبَوِيَّتَيْنِ خَاصتين لعلَّ فيهِما رَسَائِلَ لِمَسؤولي التَّعلِيم في بلادنا.