عندما تصـــل وأنت تشاهد فيلماً إلى لحــــظة تشعــــر فيها أن في إمكـــانك أن تحاول لمـــس شاشة العـــرض، لا لشيء سوى لأن ثمة إحساساً في داخلك أراد ولو للحظة أن يكون العرض حقيقياً، اعلم تماماً أنك أمام عمـــل استطاع أن يدخل قلبك وتحبه. وهذا ببساطة الشعور التي قد ينتابك وأنت تشاهد أول تعاون بين المخرج ستيفن سبيلبرغ وستديوات ديزني في فيلم «The BFG» وهو اختصار لعبارة «العملاق الودود الضخم». استطاع سبيلبرغ في فيلمه الجديد الذي عرض لأول مرة في مهرجان كان السينمائي في دورته الفائته، أن يؤكد قدرته الدائمة على خلق عنصر المفاجأة، هو الذي اعتاد أن يقدم أفلاماً عديدة مبنية على أحداث تاريخية، مثل «إنقاذ المجند رايان» و «لينكولن»، وقدم أيضاً أعمالاً تحاكي الإنسانية وتسلط الضوء على معاناة البشر مثل فيلم «اللون القرمزي» الذي أبدع في تقديمه كنموذج عن معاناة السود في يوم من الأيام. وها هو سبيلبرغ يأتي اليوم ليحاكي العالم من خلال قصة أطفال كتبها الروائي البريطاني روالد دال، ليس مستنداً فحسب على الحكاية بحد ذاتها، بل راغباً في تلك الحكاية أن يترجمها بصرياً من خلال إدارته نوعاً من الأفلام يجمع فيه بين التكنيك الخيالي في رسمه الشخصيات، والمشاهد الطبيعية، إضافة إلى العنصر الإنساني الحقيقي، المتمثل على شكل بشر طبيعيين، ناهيك عن خياره المدروس بعناية باختيار الممثل الحائز على جائزة أوسكار لأفضل ممثل مساعد عن دوره في فيلم «جسر الجواسيس» مارك رايلانس، الذي أدى دور العملاق الودود، إضافة إلى الطفلة صوفي (جسدت دورها روبي بارنيهيل)، التي ستجعلك تترقب كل تفصيلة في الفيلم بكل سرور، لما تضفيه من شقاوة وذكاء وجمال. معنى اليتم الحقيقي الفيلم الذي تبدأ أحداثه في بناء للأيتام، ترافقه أصوات موسيقى صادحة من الشارع وضرب كؤوس سكارى، يجعلك تدرك من اللحظة الأولى معنى اليتم الحقيقي في حضرة كل هذا الضجيج، فهذا الفرح الخارج عن أسوار البناء، لا يشبه مشهد الفتيات وهن نائمات في حلم عميق، أو كابوس على الأرجح، لشدة قسوة المكان وبرودته، خاصة مع لقطة واحدة تظهر فيه مديرة الميتم، والتي لن ترتاح لها ولا لوجودها بين أعداد اليتامى الذين ترعاهم. هذا المشهد الافتتاحي يحمل الكثير من المعاني التي سنبدأ بفهمها مع كل تفصيلة قادمة في الفيلم. العناصر التي تتطلبها صناعة فيلم موجّه بشكل رئيسي إلى فئة الأطفال، حاضرة في الفيلم، فالمشاهد خلابة، والألوان جاذبة، إضافة إلى الموسيقى والحوار الذي يتسم بالكوميديا غير المقحمة، بل الموجودة ضمن سياق تسلسل منطقي لتطور الحوار وأدواته، إضافة إلى المؤثرات البصرية والسمعية التي تجسدت في عالم العمالقة وطريقة تقديمهم، ناهيك بعنصر المفاجأة الذي يحيط الطفلة صوفي الفضولية بأسئلتها واستفساراتها، خاصة بعد أن أصبحت أسيرة في يد العملاق الودود الذي يعيش بين عمالقة من آكلي لحوم البشر، وهو الذي اعتاد أن يأكل الخيار ويصنع منه شرابه ذا الفقاعات التي تنزل إلى الأسفل على عكس الطبيعة. وعملياً، مشهد هذا الشراب هو الذي قرّب المسافة بين صوفي والعملاق الودود، وأزال الخوف من قلبها الصغير عندما سألته: كيف ستتجشأ إذا شربت هذا الشراب الغريب ذا الفقاعات التي تنزل إلى الأسفل؟ ليجيبها بأن التجشؤ شيء مقرف، لكن التخلص من الفقاعات سيكون على شكل غازات، فيطلقها ليترك ضحكة على وجه صوفي وعلى وجوه المشاهدين طبعاً. وقْعُ الفيلم يشبه تماماً وقع قراءة حكاية، فيه الكثير من التأني الذي يجعلك تترقب، ولو أنك أمام كتاب ستقوم أحياناً بتجاوز صفحات، لكنك ستدرك أنك فوّتَّ شيئاً مهماً لتعود مرة أخرى للقراءة بشكل صحيح، وهذا يعتبر من الجماليات التي أضافها الفيلم، لأن السيناريو الذي بني على الحكاية الأصلية والذي كتبته ميليسا ماثن، يشعرك بأنك تريد معرفة المزيد عن عالم العمالقة الموجود بين البشر، لشدة سلاسته وظرفه، وبخاصة في طريقة حديث العملاق الودود الذي يقلب الكلمات في مرات كثيرة، ليعبر عن نفسه فيصل المعنى بشكل مغاير. يتعرض الفيلم لمنعطفين دراميين عملياً، المنعطف الأول، محاولة العملاق الودود حماية صوفي من كشف سر وجودها معه أمام العمالقة آكلي لحوم البشر. والمنعطف الثاني الذي تأخذه صوفي على عاتقها بإنقاذ العملاق الودود من شر العمالقة الآخرين من خلال اللجوء إلى ملكة بريطانيا لتنقذه منهم. وبين المنعطفين حكايات كثيرة تصلح لتُروى كقصص قبل النوم للأطفال، حيث إننا هنا في عالم الأحلام، أمام السر الوحيد في حياة العملاق الودود الذي يكشف عنه لصوفي بل ويشاركها فيه، وفحواه أنه يذهب في الحلم إلى عالم مليء بشيء أشبه بالكينونات الصغيرة الملونة، يحمل شبكة صيد محاولاً اصطياد أجمل ما فيها، إضافة إلى جمع الأسوأ من بينها ليخلص الناس منها. عالم تتمنى أن يكون جزءاً من حياتك، كما تتمنى وجود عملاق يكون أشبه بملاك حارس أثناء نومك، يعطيك أجمل الأحلام التي تجعلك تبتسم وأنت تغط في النوم. قال العملاق الودود لصوفي في رحلته لتوزيع الأحلام على الأطفال: «الأحلام عندما نرويها تكون قصيرة، لكنها في الحقيقة طويلة جداً أثناء نومنا»، وهي التي قالت له سابقاً أن علاقتها مع الأحلام أشبه بحضن تحاول المكوث فيه أطول مدة ممكنة لولا اليقظة. من الطبيعي أن الفيلم سينتصر بالنهاية للخير، ومشهد الوصول إلى ملكة بريطانيا، الذي جسده المخرج بالرغم من كل البـــــوتوكولات بإنسانية عادية، جاعلاً الملكة تطلــــق الغازات، مثلها مثل أي شخص، لم يأت عابراً، ومشهد العقاب الذي تلقاه العمالقة الأشرار في التخلص منهم ليس من طريق قتلهم بل بإقصائهم إلى مكان آخر، لم يكن مشهداً عادياً أيضاً. ناهيك عن أن وجود فكرة العـــملاق الودود بحد ذاتها فكرة ملهمة. كل ذلك تم وضعه في فيلم واحد لم يحتج إلى حقائق تاريخية ليحكي فكرته، ولم يحتج إلى قصص واقعية من الحياة، كل الذي احتاج إليه أن يطلق العنان للخيال ليكون جزءاً مكوناً من حياة الناس، والأطفال تحديدا، هذا الخيال الذي لا يعرف لغة الدم والقتل والانتقام، بل يعرف شيئاً واحداً هو أن تتعلم كيف تلمس حلمك لتسعى إلى تحقيقه.