تطلق إدارة حي الفنون الباريسي مونمارتر مطلع كل صيف، تظاهرة تذكّر بالدور المركزي الذي لعبه هذا الحي في نهاية القرن التاسع عشر ما جعل من باريس عاصمة الفن التشكيلي... صدرت عن محترفاته العريقة أسماء نجومية، صنعت تيارات تلك الفترة، كبيكاسو وموديلياني ومونيه وبونار، وهكذا يعود إليها منذ فترة التأسيس الواقعية تيار الواقعية أو الطبيعية الملتزمة وعلى رأسها جوستاف كروبيه والتيّــارات الانـــطباعية ومـــا بعد الانطباعية، والرمزية وسواها يكشف المعرض البانورامي في الموسم الراهن في متحف مونمارتر (مستمر حتى نهاية أيلول/سبتمبر) ما خفي من أسرار تكشف لأول مرة كما سنرى. مجددة تاريخ التوثيق الدقيق هذه المرة ما بين ١٨٧٠ و١٩١٠ (من ستيلين إلى ساتي)، من دون تجاوز الأسماء غير المعروفـــة بـــسبب أهمية سياقها التاريخي في تواصل هذه التجربة الأصيلة على مدى نصف القرن المذكور وما زالت حتى اليوم تعبق بذاكرة المطربة العريقة إديت بياف، وكباريه المولان روج (الطاحـــونة الحمراء)، وبيوتها القرميدية المتراكبة حول الكنيسة ذات القبة التي تتوج هضبة المنطقة المرتفعة والمطلة على باريس من أعلى، هو ما يفسّر متاهة الأدراج الصاعدة والنازلة التي تنهك الطاعنين في السن والأطفال. لذلك اخترع «الفونوكلير»: الترامواي الكهربائي المعلق في الفضاء صعوداً ونزولاً من القمة إلى الأسفل وبالعكس. يعانق المعرض شواهد من اللوحات. والكثير من الليتوغراف (الطباعة الحجرية) بما يتناغم مع ترتيبه وفق التسلسل التاريخي. أي منذ أن بدأ الحي يجذب بسحره الريفي التأملي الصاعد باتجاه الكنيسة، وطراز البيوتات المحافظة على عراقتها، يبتدئ المعرض من أشهر لوحة طباعية تمثل رمزاً ثقافياً وسياحياً اليوم والتي تمثل قطة سوداء قبل افتتاح كباريه مشهور بهذا الاسم (شانوار) تتمدد على طول فراغ المطبوعة المنجزة عام 1905 من قبل فنان لا نعرف عنه إلا القليل وهو ستيلين، ولعله من الجدير بالذكر أن الأسماء المختارة من المعلمين يتجاوز عددها الثلاثين نصفها مشهور يمثل نجوم بداية القرن العشرين ونصفها غير معروف بسبب عدم تمايز أسلوبه أو بفعل التهميش غير المقصود على رغم الموهبة. يبتدئ المعرض في شكل عام قبل التاريخ المعلن عندما بدأ الواقعيون أو الطبيعيون يقعون ضحايا جاذبية الحي، وأبرزهم جوستاف كوربيه في أول محترف تبعه بعض أقطاب جماعة باربيزون ثم جاء الانطباعيون: ابتداءً من رنوار، لحقه مونيه وسيزان والبقية، مثل سيسلي وإدغار ديغا الذي ثبتت في لوحاته الصفة الشعبية في الحي، من خلال موضوعات الكواية والغسالة والراقصة الشعبية، (قبل سنوات من استغراقه في موضوعه البرجوازي عن كواليس راقصات الباليه)، وهنا نقع على أحد أسباب جاذبية الحي وهو تجول المعدمين والفقراء والنساء والأطفال فيه وكذلك الحواة مع المهرجين وحتى الشحاذين. سيمثل الحي زاداً خصباً لدى بيكاسو في المرحلة التالية الزرقاء وحتى مرحلة الآرلوكان (السيرك). تبع هؤلاء فان غوغ وبول غوغان ورودون وإميل برنار (سيشكلون فيما بعد جماعة بون آفين)، جاء الأخير من ليل وبعضهم من الهافر مثل راؤول دوفي وبعضهم من خارج فرنسا مثل موديلياني الإيطالي وبيكاسو الإسباني، وهكذا تجمع في محترفات الحي فنانون من شتى الآفاق بما يتناغم مع مونوبولية باريس واستقطابها للحداثة المعاصرة. يتفوق المعرض على ما سبقه من معارض بسبب عمودية اختصاص وعمق ومعرفة مفوضي المعرض. من هذه الأمثلة أن سوزان فالادون ابتدأت تعمل موديلاً لرونوار. ثم تخاطفها شافان وتولوز لوتريك وموديلياني، قبل أن يدفعها إدغار ديغا للاستقلال عنهم، والاعتماد على تصويرها الموهوب فقط. ارتبط اسم مونمارتر بعبقري مارس تأثيره على الجميع على رغم إعاقته الصحية، وهو هنري تولوز لوتريك الذي اختص بتصوير الكاباريهات وبنات الهوى، يختلط بهن ويساعدهن مادياً. فقد كانت والدته غنية تمدّه بالمال بصيغة مستديمة، لا شك في أن تأثيره كان بصمة صريحة على بعض مراحل بيكاسو ودومييه، وعلى التنقيطيين الإثنين: جورج سورا وبول سينياك، مخترعاً شكل السيدة ذات الجرابات والأكمام السوداء والعين المكتحلة من السهر، في نموذج مستقى من راقصات ومطربات. إذا ما انتقلنا إلى معلم آخر (الوحيد «الوحشي» القريب من هنري ماتيس) وهو راؤول دوفي الذي قدم من العاصمة الثانية للفن التشكيلي الهافر مستقراً مباشرة في الحي، يعمل بفرشاة حرة عصبية وألوان طازجة مأزومة، بالأحرى أقرب إلى الكروكي، الرسم السريع والتحضيري منه إلى اللوحة المنتهية، هو ما هيأ له شهرة لا بأس بها، كلف على أثرها بإنجاز أشهر جدارية حداثية في باريس تروي قصة اختراع الكهرباء على مساحة ٧٠ ألف متر. كانت في شركة الكهرباء واليوم انتقلت إلى جدران متحف الفن المعاصر في مدينة باريس. موريس أوتريللو، هو الوحيد الذي كان ينقل عن بطاقات بوستال أحياء وعمائر مونمارتر، دخل مرات مستشفى الأمراض العقلية مما منح للوحاته قيمة داخلية عصابية تأملية خاصة، كان صديقاً لموديلياني الذي تعرضنا لخصائصه أكثر من مرة. أما ماكس جاكوب فقد ظل أسلوبه يتمسك بظلال بيكاسو، من دون أن يصل إلى استحواذ خصائصه المميزة. لعلّ أبرز المفاجآت السعيدة التي كنا نجهلها هي وجود طيف الموسيقي الكبير دوبوسي في استلهامه عادة من قبل المصورين، ثم وأكثر من ذلك وجود طيف عبقري للموسيقى الحديثة إيريك ساتي (آخر مؤلف جدي مع رافيل)، فهو مصوّر محترف ولوحاته لا تنسى لخبرته التقنية لدرجة أن الزوار تصوروا بأنه شخص آخر غير الموسيقي المعروف.