في أبريل/نيسان 1992 سقطت طائرة ياسر عرفات في صحراء ليبيا، ففوجئنا بالرئيس الفرنسي يستنفر أجهزته لإنقاذ الرجل، وكذلك فعل الرئيس الأميركي من مقر إجازته. لم يكن أحد يعلم يقينا -رغم المؤشرات- أن منظمة التحرير الفلسطينية التي تاهت في اللعبة الإقليمية والدولية كانت -ومن خلال مفاوضات وصفقات سرية- قاب قوسين أو أدنى من نهاية المسار الذي حولها من حركة تحرر وطني ومقاومة للاحتلال إلى سلطة تصريف أعمال في ظل احتلال تنسق معه أمنيا لحمايته. ولأن الرجل كان يمسك بكل الخيوط وكان دوره محوريا في هذا التحول الجذري كان الحرص الشديد على حياته. ما حدث في تونس -وفي غيرها- مسار متطابق وعملية ترويض مثيلة حولت حركات تغيير لأوضاع فاسدة إلى أحزاب تطبيع لنفس الأوضاع، ولقد شهدنا نفس الحرص الشديد من قبل نفس الدول على حياة بعض الزعامات، ونفس التمويل السخي من نفس الجهات التي أغدقت مئات الملايين على منظمة التحرير، ونفس التيه في اللعبة الإقليمية والدولية، وسيأتي اليوم الذي يفرج فيه عن الوثائق السرية أو تتسرب لتروي تفاصيل ما دار في الكواليس. هكذا ضاعت الثورات العربية كما ضاعت القضية الفلسطينية. اختلفت المشارب الإيديولوجية وطبيعة التحدي الذي استدعى تأسيس الحركتين وتطابق المسار والمحصلة. 4909964306001 56311392-65c1-41da-ac19-c3f36180fe31 8e1b6ae6-ae3d-4409-8f68-99cd72dccdba video قامت حركة النهضة تحمل مشروعا للتحرر والإصلاح الشامل كلفها تضحيات جساما على مدى ثلاثة عقود، ثم جاءت موجات الربيع العربي لتزيح العقبة وتعيد الحركة إلى المشهد بقوة وتفتح طريق الإصلاح على مصراعيها، فماذا حدث؟ مرت السنة الأولى دون إنجاز يذكر، وهذا مفهوم نسبيا؛ فالطبقة السياسية كانت في أضعف حالاتها وتفاجأت بالثورة، والنهضة كانت بحاجة لتلملم جراحها وصفوفها بعد عقدين من القمع والحصار. ثم إن الثورة العفوية لم تفوض أحدا لقيادتها. ثم جاءت انتخابات المجلس التأسيسي بكل ما تحمله كلمة التأسيس من تمهيد للإصلاحات الجذرية، وكانت المشاركة مكثفة، وحققت النهضة فوزا كاسحا، إذ صوت لها أكثر من أربعة أضعاف عدد الذين صوتوا للحزب الثاني الذي كان حزبا ثوريا صديقا. انضم للحزبين حزب ثالث صديق فشكلوا بأغلبية مريحة حكومة ائتلافية تقودها النهضة. توفر التفويض وتهيأت كل الظروف والشروط للنهضة لتقود الشعب والثورة وتنفذ مشروعها تحقيقا لأهداف الثورة، خاصة وقد خاضت حملتها الانتخابية على هذا الأساس والقطع مع المنظومة القديمة التي توارت إلى حد كبير. كانت لحظة الحقيقة.. لحظة مفصلية وتاريخية من النوع الذي لا يتكرر.. لحظة الحسم بين مسارين وخيارين لا يلتقيان ولا ثالث لهما -باستثناء الفوضى- في ظل التبعية في أي دولة عربية: إما التغيير الذي يقتضي المراهنة على المشروع والالتحام بالشعب وتعبئته لخوض معركة التحرر والنهوض، بقوة وحزم ولكن بحكمة وتدرج. وهذا طريق محفوف بالمكاره والمطبات، وبقوى خارجية وداخلية مناوئة. أو الخلاص الفردي والحزبي الذي اختارته النهضة ومنظمة التحرير من قبل، وهو مسار تتعرض فيه حركة التغيير إلى عملية تدجين وتسييل لأفكارها تجردها من مشروعها ومن أي نفس تحرري، وهي طريق سالكة ومحفوفة بالمغريات والمكاسب الشخصية والحزبية، ولكن فيها خذلان لشعب ووطن وتضييع لقضية وثورة. البداية تكون عادة تحولا في البوصلة يصبح بموجه الوصول إلى السلطة غاية وشرطا للإصلاح الذي يؤجل ويوضع على الرف، فتدخل الحركة المنتشية بقوتها في صراع على السلطة طويل ومكلف يصل بها وبالبلاد إلى طريق مسدودة (بعد تكرار وتنويع المحاولات من انتخابات وانقلابات وانتفاضات)، وتنشغل عن مشروعها وشعبها بصراع يستنزف الجهود في تحصين التنظيم (وسيلة الوصول إلى السلطة)، وذلك على حساب الإصلاح ومقتضياته من فكر وإستراتيجيات وتكوين للقادة والقدوات.. ويصبح التركيز على الكم والانضباط والسرية والتغلغل في أجهزة الدولة لفتح طريق السلطة. وفي الأثناء يحدث تطور آخر يضعف من حصانة ومناعة الحركة ضد الاستدراج والتدجين؛ فالتحول من التغيير إلى التطبيع هو تحول انقلابي، لا يمكن أن يتم في حركة عملها مؤسسي وشفاف وقرارها شوري ديمقراطي وفيها تداول على السلطة. 4910531283001 7ce2314c-b9f9-47d6-8894-b0a4f07b520f 214fccd7-ef82-4e95-b7f3-fa9127c61fdd video أجواء السرية والمواجهة المزمنة، تقتضي أو على الأقل تسمح بسيطرة شخص أو مجموعة صغيرة على مفاصل التنظيم ومقدراته بحيث يتعذر تغييرهم أو معارضتهم أو محاسبتهم، فيتعاظم النفوذ ليمكن القيادة من أن تأخذ الحركة في أي اتجاه، خاصة إذا كانت قيادة تاريخية مؤسسة.. هذه القيادة كثيرا ما تصبح تحت ضغوط كبيرة لتحقيق الغاية في عهدها بشكل أو بآخر، فيلتقي طول الأمد والطريق وانسداد الأفق مع استعجال الثمرة، فتستحكم الحلقات، فلا يبقى إلا أن ينفتح المسار الثاني ويأتي العرض أو الفرصة.. وهذا ما فعلته موجات الربيع العربي التي فتحت المسارين أمام الحركة. في السلطة قدمت الحركة خطابا إصلاحيا ثوريا، وأعدت خططا للإصلاح ومحاربة الفساد ثم تراجعت عن كل ذلك فجأة تهيبا بعد إسقاط حكم الإخوان في مصر. وهنالك تفسير آخر تعززه قرائن يقول إن الحركة لم تكن فقط مهيأة لمسار التطبيع بل سارت فيه خطوات على استحياء وفي السرية قبل الثورة، في إطار تحضير الغرب لخلافة بن علي واستكشاف البدائل. والأسئلة التي تطرح نفسها بقوة: لماذا تتكرر هذه الظاهرة المحبطة، التي ضيعت على شعوبنا فرصا ثمينة ونادرة كلفت الأجيال تضحيات جساما، وترتب عنها استدامة بل وتكريس لمنظومة التبعية والفساد والاستبداد (الخشن أو الناعم)؟ وإلى متى تظل الشعوب تفرز حركات التغيير وتقدم التضحيات وتصنع الفرص لتجد نفسها في المربع الأول محكومة بنفس المنظومة، مع تغييرات شكلية لا تكبر إلا في عيون أصحابها الذين يخلفون أسلافهم في دور الوكالة؟ وكيف ومن أين تؤتى وتستدرج حركات تبدو عصية على الاحتواء والتطويع والتوظيف، فإذا بها تقع في نفس المطب، وبنفس الطريقة والمبررات، فتفرط في المشروع والتضحيات والمصداقية، وتتنكر لشعبها وتطلعاته ووعودها، لقاء مكاسب شخصية وحزبية تافهة، ومطاردة لسراب اسمه الديمقراطية في ظل التبعية أو السلام في ظل الاحتلال؟ إذا تناولنا المسار من آخره نجد أن الانحراف مرتبط بتحول السلطة إلى غاية وبطريقة الوصول إليها. تفتح الطريق أمام حركة التغيير فتتعطل الفرامل وتبدأ التنازلات، ثم تصبح السلطة مطلبا لتأمين الحركة. وفي الدولة التابعة الطريق الأقصر والأضمن إلى السلطة هي المباركة والتعميد من الخارج، والثمن التسليم بالتبعية (ومن ثم بالمنظومة السائدة) والتخلي عن أي مشروع للتغيير، لأن السلطة في الدولة التابعة أو المحتلة هي أساسا وكالة للحفاظ على الأوضاع والمصالح. ثم تكبل الحركة وتفصم عن شعبها بتمويل سخي مشبوه أو مشروط تدمن عليه وتفاهمات سرية محرجة، فلا تصل إلى السلطة إلا وقد أصبحت مثقلة وطيعة، ثم تفقد الظهير الشعبي وينقطع خط الرجعة، ثم تستأنس بالوضع الجديد المريح، فيصبح البقاء في السلطة أو حولها غاية تبرر كل وسيلة ويصبح الرضى الخارجي خشبة النجاة. هذا الفشل في اختبار السلطة هو نتيجة لمعضلة أكبر وأعمق تنشأ مبكرا، وتتمثل في تشخيص خاطئ وسطحي للأزمة وجذورها ومن ثم مقاربة خاطئة للتغيير. فالقضية في الدولة التابعة ليست قضية من يحكم وكيف يحكم، تلك قضية الشعوب والدول المستقلة والسوية، أما في الدول العربية فالقضية قضية تحرر من التبعية ونهوض من التخلف، وإعادة صياغة وبناء عقول ونفوس دمرتها قرون من الاستبداد والاستعمار. التشخيص الأول يدفع باتجاه المراهنة والصراع على السلطة، والظن بأن الحركة يمكن أن تحدث التغيير نيابة عن الشعب ومن ورائه. المهم أن تصل إلى السلطة، ولذلك يسهل استدراجها وتطويعها. أما التشخيص الثاني فيقود باتجاه مغاير تماما؛ فالنقلة المطلوبة كبيرة، ولا يقدر عليها إلا شعب معبأ وقيادة ملتحمة بشعبها. ومن ثم تصبح الأولية الحاكمة للحركة تحقيق هذه التعبئة وهذا الالتحام والمحافظة عليهما. حجر الزاوية في هذا المسار الشفافية والزهد في السلطة، فهما اللذان يغلقان باب الاستدراج. والمصداقية والحرص الصادق على الوطن والناس فهما اللذان يحققان الالتحام والتعبئة. 4884307009001 16381088-bb3e-40ff-8d1e-13f4bff98815 fb7e2651-80e5-4560-b360-3ca032b106c6 video هنا القضية قضية وطن وشعب وتحرر ونهوض، وليست قضية دستور وأحزاب وانتخابات، شعب تحفزه حركة وتقوده لخوض معركة التحرر والنهوض ودفع ثمنها، ومشروع تدفع به الحركة من أي موقع دون مساومة. فلا خير في سلطة إن لم تكن في إطار تفويض شعبي لإحداث التغيير المطلوب، ولا خير في حركة إذا أصبحت تنظيما بلا مشروع. مهمة الحركة في هذا المسار تكوين قدوات وقادة مجتمع وبثهم في المجتمع لإصلاحه، وتلك الطريقة الوحيدة لتغيير العقول والنفوس، وبلورة المشروع وحسن عرضه من أجل الحصول على التفويض الشعبي لتنفيذه وانخراط أكبر عدد من الناس. للتغيير والإصلاح وتحقيق النقلات الكبرى في تاريخ الشعوب طريق وحيد، وكل ما عداها سراب، وهي على مخاطرها الوحيدة التي تعطي الحركة القوة والقدرة على المناورة والاشتباك مع المنظومة السائدة بشقيها المحلي والخارجي، كيف لا وهي مسنودة من شعب تصدقه فيصدقها، زاهدة في السلطة والمكاسب الشخصية والحزبية، وليس لديها ما تخفيه أو تخشاه أو تخشى عليه، وأيديها غير مكبلة، وليست مدينة لأحد، فهي غير ملتزمة سوى بمشروعها مع شعبها. هذه هي القوة الحقيقية، على عكس مظاهر القوة الوهمية والخادعة التي يوجدها الدعم والحماية والتلميع من الخارج والميزانيات والمقرات والمواكب. صحيح أن المراهنة على السلطة وعلى الخارج طريق سالكة تؤمن الحركة ولكن بعد تجريدها من مشروعها وتدجينها. فإذا سلكت الحركة طريق التغيير، يبقى أمامها تحدي التنزيل والتنفيذ، وهنا لا بد من الحكمة والتدرج، بحيث تشتبك مع المنظومة الفاسدة دون تنطع ولا تهور ودون انغماس فيها. المهم أن تنجح الحركة في تثبيت معادلة التغيير والإصلاح والمتمثلة في علاقة تفاعلية بين الإنجازات والقدرة -في مقارعة المنظومة الفاسدة- من جهة، والمساندة الشعبية بحيث يعزز كل منهما الآخر، تلك المعادلة التي نجح في تثبيتها العدالة والتنمية التركي قبل أن تختل بمواقف وحسابات خاطئة داخلية وخارجية، والمعادلة التي لايزال يحافظ عليها العدالة والتنمية المغربي. وليس صحيحا أن الخيارات محصورة بين "الثورجية" والتطبيع، أو بين الانتقام والانبطاح، أو بين الحرب الأهلية وتجويف الثورة، كما يحاول البعض إقناعنا. التغيير والتطبيع مساران متناقضان لا يمكن الخلط بينهما، ولا يمكن لأي دعاية مهما عظمت أن تنجح في حصر مخل للخيارات بين السيء والأسوأ ولا في تسويق التطبيع على أنه تغيير متدرج. وكل من سلك مسلك التطبيع، استعمل نفس الخطاب المراوغ والمبررات الواهية لتغليف النكوص وتسويقه. ولعل أغرب هذه المبررات وأطرفها القول بأن أهداف مشروع الحركة قد تحققت، ولذلك قررت أن تتحول إلى حزب مدني خدمي. أما الأسباب الحقيقية وراء تكرر هذا الانحراف فهو نرجسية النخب وهوسها بالسلطة، وحرصها على جني الثمرة بنفسها، ولذلك تتعب من السير في طريق التغيير الشاق ولا تصمد أمام إغراء السلطة، وطبعا التشخيص الخاطئ والحسابات الخاطئة. ثم إن طريق التطبيع مريح وانزلاقي وبلا رجعة، من بدأه يضطر إلى السير فيه إلى النهاية، كما حدث مع الراهب الذي استدرجه الشيطان فزنى ثم قتل ثم أشرك. يبدو أن الجهات المتنفذة المعارضة لأي تغيير قد أدركت أن داء الشعوب العربية في نخبها السياسية، وأن هذه النخب جوفاء لا تتمالك ولا تصمد أمام الشهوات، جنسا كانت أو مالا أو سلطة أو جاها أو شهرة، وأن طموحاتها صغيرة ولا تتجاوز المكاسب الشخصية (مالا أو جاها)، والفئوية (حزب، طائفة..)، وبالتالي فهي فاقدة للمناعة وقابلة للاستدراج والتطويع والتوظيف وبأقل التكاليف، وأن ذلك أيسر بكثير من مقاومتها التي تزيدها صلابة وتجذرا في المجتمع.