يقال: اجمالاً أن السياسة بضغوطها، وضروراتها تجعل البعض ممن يمارسونها، يتخذون مواقف صعبة وبشعة كخيارات وحيدة ومرة. ومهما كانت التبريرات لتلك القرارات، فانها تصبح أمرا لا يمكن فهمه،على المستوى البشري، والأخلاقي. ولا يتصور التعاطي معه مطلقا عندما تتعلق بحياة الناس، وأرواح اطفالهم. المفيد أن مثل هذه المغامرات السياسية والمراهقات اللا اخلاقية تحدث غالبا في دول العالم الثالث حيث تكون أدوات إدارة الناس وحياتهم رهنا بفكر ومزاج جهة متسلطة تتلذذ بممارسة السياسة كلعبة اجبارية ليس لها إلا خيارين في نهاية المطاف هما،التضحية والتلاعب بأرواح الناس، أو مواجهة الفناء. من أشهر القصص التي ملأت الفضاء الانساني والسياسي والاخلاقي في منطقتنا وفي العالم القصة التي عرفت اعلاميا بقصة «الممرضات البلغاريات» 1999-2007م، والتي كان مسرحها الصغير مستشفى الفاتح في مدينة بنغازي الليبية. وللتوضيح فإن عدد الممرضات البلغاريات خمس نساء كن يعملن ضمن الطاقم الفني في المستشفى، ومعهن في التهمة طبيب متدرب عربي فلسطيني الجنسية وهو الشاب أشرف الحجوج الذي انهى دراسة الطب في احدى الكليات الخاصة وقبل اتمام فترة التدريب العملي ليصبح طبيبا وقعت الحادثة. هذه الحادثة اخذت من مشاعر الناس ووقتهم وتفكيرهم الكثير ولكنها بالتأكيد اخذت من حياة اشرف وأسرته ووالده ووالدته وأخواته الاربعة الذين استعدى النظام الناس ضدهم الكثير. ويكفي أن نعرف أن أول علاقة لأشرف مع السلطات الأمنية والاستخباراتية كانت في غاية البشاعة تعمدت قذفه في مؤخرة سيارة نقل مكشوفة مكبلا ومعصوب الاعين والسفر به مسافة تقترب من الالف كيلو متر من بنغازي إلى طرابلس حيث كانت اقامته واستجوابه وسجنه هناك. ومن المؤكد انها أخذت من حياة و راحة البلغاريات العاثرات الحظ اللائي جئن إلى ليبيا لجمع النقود، فعدن بحماية دولية بعد السجن والمرور بلحظات يأس من المؤكد ان فيها من العناء الكثير، ولكن من المؤسف ليس في المصادر المتاحة ما يفصل سنوات السجن والحرمان من الأمل التي مررن بها. إلى هنا ولم تبدأ الصورة لحقيقة الفعل الصادم لهذه الحادثة واعني به الضحايا المباشرين وعددهم 426 طفلا حقنوا بدم ملوث بفيروس الايدز. لماذا؟ وكيف حدث ذلك؟ سيبقى احد ألغاز المرحلة الماضية، ولكن كثيرا من الوقائع تكشف للناس جوانب ممكن ان تساعدهم على فهم ما الذي يدور. ومن الراجح عند اغلب من راقب هذه الحادثة أن السبب الرئيس في وصول الدم الملوث الفاسد إلى أجساد الأطفال الليبيين الغضة كان من جراء الفساد الذي لا يردعه قانون أو نظام!! حيث استوردت شخصيات دارت حولها الشبهات مقربة من صناعة السياسة في البلد حينها كميات من الدم من خارج ليبيا واتضح أن هذا الدم غير نقي، ولكن المحسوبية والفساد والتلاعب بأرواح الناس ومصالحهم ومستقبل صغارهم كان يقف عاجزا أمام مصالح المتنفذين. فحصلت الكميات على الترخيصات اللازمة نظاميا وشكليا. علاوة على اشارة مهمة اهتم بتوضيحها بعض المختصين طبيا بأن الحالة الصحية للقطاع الصحي متردية وأن الاحتياطات الطبية التقليدية والعادية في معظم مستشفيات العالم لم تستوف في هذا المستشفى التعس، وربما هذا حال غيره من المستشفيات الليبية حينها. المهم انه بعد هذه المظاهر الفاسدة بامتياز في القطاع الصحي، وفي اجراءات نظام ادارة الدولة عن طريق تنفيع المتنفذين كان يتطلب معالجة سريعة تتناغم مع احتياجات السلطة الحاكمة التي تكابد خصوما دوليين وتعاني من حصار خارجي، وتتطلع إلى تحقيق مكاسب سياسية في ظل هذه المعطيات. فتحولت العملية برمتها إلى مستوى أعلى من الصراع وبرز على المشهد الموساد الاسرائيلي الذي قيل في بادئ الامر انه كان وراء تجنيد الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، ثم تحركت أصابع الاتهام لتشير إلى جهات استخبارية دولية معادية، ثم كان هناك حديث عن شخص مجهول يحمل مواصفات غربية جند الجميع ضد ليبيا وأطفالها. المؤلم أن النظام في بدايات تعاطيه مع المحنة اتهم الآباء والأمهات تلميحاً بأنهم يقومون بممارسات غير اخلاقية تجلب هذا المرض!! سأتجاوز هذه الاشارة القاتلة لأبناء وأمهات مكلومين وانتقل إلى أحدهم وهو السيد/ ادريس الأغا الرجل الذي عُرِف خلال هذه الأزمة برئيس جمعية الأهالي، من سكان بنغازي واب لطفلة أصيبت بالمرض القاتل، وكان يردد قناعته بضلوع الممرضات في هذه الجريمة ومعهن الطبيب الفلسطيني، وهذا أمر يمكن تفهمه كمخرج اجباري وسط سطوة النظام، لكن الأمر الذي يثير الذهول الحالة اللا معقولة التي غدا اليها الأب المكلوم وهو يفسر أسباب اقدام الممرضات والشاب الفلسطيني على هذا العمل بأنه تم بناء على دوافع هوسية جنونية، شبيهة بتلك المشاعر التي تنتاب بعض الذين يقدمون على الجرائم الجماعية في بلاد الغرب!! ووصف في بعض مقابلاته حينها الطاقم بأنهم موتورون ويعتقدون بوجود أرواح تهبط إلى الأرض منها روح السيد المسيح عليه السلام، أمرت الجناة بقتل الاطفال ليغادروا هذه الدنيا ويصعدوا للراحة الابدية في السماء!! كيف يريد النظام الحب والاحتضان من المواطنين وهو يمعن في تقطيع الجسور معهم في صحتهم وأطفالهم وفي عقولهم!!! هذه القضية بابعادها المتداخلة اثارت توترات محلية، وإقليمية، ودولية، خاصة بعد ان تدخل القضاء على خط الأزمة وأصدر لمرتين أحكاماً بالإعدام على الممرضات الخمس والطبيب الفلسطيني، كان آخرها 2006م، وذهب النظام إلى آخر المطاف مع لعبة الموت، حيث قايض الممرضات باستعادة المتهم عبد الباسط المقرحي من السجن في أوروبا، والكل يعرف ان الرجل كان ربما ضحية للنظام الذي ورطه في التسبب بحادثة طائرة لوكربي في 1988م العلاقة على خلفية هذه الحادثة لم تنته إلى هذا الحد، وحاول النظام المزايدة داخليا بمساواة ضحايا الايدز بضحايا طائرتي لوكربي من حيث حجم التعويضات المادية. وهذه قصة أخرى مثيرة ومحزنة في نفس الوقت وتكشف ألوانا من حجم الفساد وعبث السلطة المطلقة، و تصرفات المقربين الذين يعبثون بمصداقية الاوطان وحياة الناس، حيث تشير بعض المصادر إلى أن بلداً عربياً قَبلَ بعد وساطة من المقربين من النظام دفع 450 مليون دولار لضحايا قضية الممرضات مقابل استثمارات نفطية في ليبيا، ولكن بعد انتهاء الازمة رفض النظام اتمام الاتفاق مع الطرف العربي!! المشهد الأكثر اثارة في القصة هو صدور العفو عن الممرضات بعد تدخلات دولية أمريكية وبريطانية وفرنسية، والوصول لحل لموضوع لوكربي الذي اعتبر نصرا سياسيا للنظام. ومع نهاية القصة المأساوية ومغادرة الممرضات إلى بلادهن، ومعهن الطبيب الفلسطيني الذي مُنِحَ هو الاخر الجنسية البلغارية كأحد الحلول للمطالبة به وخوفا من ان يقدم النظام على تقديمه كبش فداء وحيد لإقناع الداخل او جزء منه. وبعد أعوام طويلة من السجن والاعتقال والتعذيب للمتهمين، ولأهالي الاطفال أسدل الستار بالتعويض لأسر الاطفال، ومغادرة المتهمين للأراضي الليبية إلا أن جزءا كبيرا من هذه الحادثة لايزال يبحث عن اجابات لبعض الفصول التي تجاوزت فيها الدراما والسياسة حد المعقول. وقد يفهم القراء الكرام ما اعنيه بالجملة الاخيرة إذا تفحصنا رواية حملتها بعض المصادر التي توثق للمرحلة فحواها أنه في اليوم الذي تم فيه الاعلان عن عفو القضاء الليبي عن الممرضات البلغاريات الخمس ومعهن الطبيب الفلسطيني،مَثَلَ القذافي دور المفجوع والمصعوق من هذا الاجراء الذي حاول التظاهر انه تم من وراء ظهره، وذلك بأنه امر مرافقيه بالذهاب إلى مسقط رأسه في مدينة سرت، لاستخراج شهادة وفاة باسمه من السجل المدني. وكانت الرسالة البليدة من وراء ذلك تقول: ان الزعيم لا يقبل المساومة بأرواح الناس.