لأن انتقاء الألفاظ مهم، واختيار العبارات تكتيك وتكنيك، وحيث إن ما يمكن قوله مخففاً لا ينبغي طرحه مكثفاً، وما لا يمكن الإفصاح عنه بالعربية يمكن المجاهرة بها إنكليزياً، فإن الحديث حالياً يدور في أروقة إجراءات الـ «austerity» ويتداول في دهاليز الـrisks وتدور دوائره في نطاق الـdevaluation ويتم التطرق بين الحين والآخر للـ deficit ناهيك عن اعتبارات الـpolitical contentiousness. حديث الخبراء الشارحين لحال مصر الاقتصادي ووضعها المالي وهمها الاجتماعي وحلها الـ»صندوقي» يتم تخفيف حدته وتقليص قسوته وتلطيف وطأته تارة باللجوء إلى لفظ إنكليزي في توصيف مرض عضال هنا أو المكاشفة بوضع جبار هناك، وتارة أخرى بجعل المقدمة وردية حيث إشادة الصندوق الدولي بالأوضاع المصرية، وتجميل الشروط الإجرائية من خلال لمسة وطنية وهمسة ضرورية قوامها أن الإجراءات الاقتصادية المتخذة شر آني لا بد منه وخير مستقبلي لن يلاحق المصريون على جني ثماره. ثمار الفاكهة والخضروات تتصاعد أسعارها في سوق المطرية متحدية قواعد بورصة نيويورك. فهي تتأثر بالدولار سلباً فقط، فإن صعد صعدت، وإن هبط صعدت، وإن استقر صعدت أيضاً. صعود شبيه تدور رحاه في مجال اللحوم والدواجن بأنواعها، وصنوف مستلزمات البيت ومفروشاته، والأدوات الكهربائية والعقاقير الطبية، وبالطبع الملابس الجاهزة والذهب والفضة وكل ما يمكن أن يتحجج تجاره بارتفاع سعر الدولار حتى لو كان صُنِع في مصر، أو زُرِع فيها، أو وُلِد على أرضها. وعلى رغم قسوة المعيشة وجنون الأسعار وانفلات الكثير من الأسواق على رغم جهود حكومية مبذولة، إما طرح البدائل أو السيطرة على المنافذ، إلا أن هناك شعوراً شعبياً يقينياً بأن القادم أسوأ اقتصادياً. هذا الشعور يرتكز تارة إلى إلمام عام بحقيقة الأوضاع الاقتصادية الصعبة على مدار السنوات الخمس التالية لهبوب الرياح الربيعية، وأخرى على خلفية ذكاء مصري فطري قادر على التقاط الرسائل المبهمة المرسلة له «تحت الجلد» حيث إشاعة ارتفاع أسعار المواصلات ثم تكذيب رسمي، أو دمج جملة «ضرورة رفع الدعم كلياً في المستقبل» في أثناء كلمة يلقيها مسؤول في افتتاح مشروع قومي أو اختتام مؤتمر وطني، أو تلك المباشرة حيث رئيس الوزراء يداوم على القول «إننا مضطرون لاتخاذ إجراءات مؤلمة» أو «مجبرون على تفعيل خطوات موجعة» أو «ماضون في تفعيل قرارات قاسية» فيعتادها المواطنون ولا يشعرون بحدة الألم وقت تنفيذها فجأة، وثالثة بمكاشفة رئاسية لـ»إجراءات قاسية» ستكشف عن وجهها قريباً جداً. «قريباً جداً سيتمكن المواطن المصري من التوجه إلى البنوك والحصول على الدولار بسعر موحد» بشر الرئيس عبد الفتاح السيسي المواطنين. ولأن «الملافظ سعد» كما يقول المصريون، فقد بذل جهداً لطمأنة المصريين بأن محدودي الدخل لن يضاروا، وهو ما أقلق محدودي الدخل من أبناء الطبقة المتوسطة المهروسة هرساً غير مسبوق لا سيما أن الجميع يعتبرها «طبقة مستريحة» وهي أبعد ما يكون عن ذلك. ضرائب جديدة، ارتفاع أسعار خدمات حيوية، التهاب قيمة فواتير كهرباء ومياه وغاز، بالإضافة لقيود عدة تصب في بعضها البعض، فتؤدي تباعاً إلى ارتفاع مصروفات المدارس والجامعات الخاصة، والباصات، والخدمات وغيرها والتي تضرب الطبقة المتوسطة في مقتل، لا سيما في ظل جمود رواتبها ما يعني انخفاض قيمتها الفعلية وذلك لحماية الطبقات الدنيا. الطبقات الدنيا اقتصادياً تدعي أنها تحتكر نسبة الـ26.3 في المئة من نسبة الفقر. وتزعم إنها تسيطر وحدها على معدل البطالة المقدر بـ13 في المئة، في حين أن الطبقة المتوسطة تقول إنها باتت شريكاً أساسياً في هاتين النسبتين. وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية قالت في بيان لها إن القرض المرتقب سينعكس إيجاباً على تصنيف مصر الدولي، لكن مخاطر التفعيل عالية مع استمرار التحديات الاقتصادية. البيان الذي يحمل رؤى إيجابية حول مستقبل مصر الاقتصادي يسهب البعض في ترجمتها واستعراضها، يحذر كذلك من صعوبات آنية وفي المستقبل القريب ناجمة عن التنفيذ. «من المرجح أن يتضمن برنامج صندوق النقد بنوداً للتحرك نحو سعر صرف أكثر مرونة، وإجراءات مالية واسعة النطاق بينها تطبيق ضريبة القيمة المضافة وتخفيضات جديدة في الدعم وإصلاح منظومة الخدمة المدنية الحالية». الأجواء العنكبوتية الحالية منقسمة بين فريق مؤيد للخطوات الرسمية على بينة نسبية بمخاطر الصندوق ومعلوماتية واضحة عن الأوضاع الاقتصادية وتسليم بقضاء الله وسياسات حقبة ما بعد الربيع، وآخر مندد معارض مهدد منفر داق على أوتار «فشل السياسة» و»إخفاق الاقتصاد» حيناً و»عقاب ضياع الشرعية» و»انقشاع الشريعة» حيناً. وبحسب فيتش فإن «السعي وراء دعم صندوق النقد الدولي «مثار خلاف سياسي» في مصر، و»لمواجهة ذلك ستقول الحكومة إنها تسعى لتطبيق برنامج اقتصادي خاص بها، وسيدعم الصندوق ذلك. ويتجلى برنامج الحكومة الاقتصادي متسارعاً، بدءاً بوزارة المالية التي تؤكد عدم وجود شروط لقرض الصندوق، وأن البرنامج الذي تجري مناقشته حالياً مع الصندوق مصري مئة في المئة، وحظي بموافقة مجلس النواب، مروراً بالجهاز المركزي للتنظيم والإدارة الجازم بأنه «لا مساس بأجور موظفي الدولة»، ورئيس الوزراء المهندس شريف إسماعيل مصرحاً بأن «محدودي الدخل على رأس أولويات الحكومة»، وانتهاء بوزير التموين السيد خالد حنفي مشيراً إلى أن قرض الصندوق سيضبط الأسعار ويجذب الاستثمار، ووزيرة الاستثمار السيدة هالة خورشيد باحثة مع الرئيس برنامج طرح جزء من رأسمال بعض الشركات المملوكة للدولة للاكتتاب للمستثمرين والمواطنين في البورصة. وبينما ينقب البعض عن أغنية ياسر المناوهلي «صندوق النقد» الساخرة التي أطلقها عام 2012 رفضاً لقرض مماثل حينها مركزين على كلمات «إلحقني في عرضك كلبشني بقرضك يا صندوق»، يبحث آخرون عن المقصود بكلمات austerity (تقشف) وrisk (مخاطرة) وdevaluation (خفض العملة) والأهم political contentiousness (المشاكسة السياسية).