الكلام والكتابة يشكلان لديه الفعل نفسه، فعل يُمارسه من خلف نظارة تبدو لمن يراه أنها طبيّة، لكنّ القارئ يكتشف فوراً أنها نظّارة مُكبرة، تلتقط التفاصيل وتُعيد صياغتها، تلتقط المهمل والمهمّش وتضعهما في المركز بفنية عالية. مهنة الكتابة ليست جديدة على مكاوي سعيد، ذاك الكاتب (كتب الرواية والقصة وكتب للأطفال) الذي برع في كتابة البورتريهات، حتى أنني أخبرته أخيراً أنّ المشكلة تكمن في غياب الشخص القادر على كتابة بورتريه عنه شخصياً. عندما تقرأ مقالاته في الصحف وكتاب «مقتنيات وسط البلد» (2012) تُدرك أنك أمام جعبة تفيض بالتفاصيل وتنتقي منها ما هو ضروري. لديه رؤية ثاقبة للبشر مُختفية خلف مرونته الشديدة التي قد تكون خادعة تماماً، فهو بارع في ملاحقة الأحداث، ومتابعة السير الذاتية للأشخاص البارزين- ولا أقصد المشاهير- في الفن أو الأدب أو الشعر أو السياسة أو البلطجة! ... مكاوي سعيد ذاكرة غنية لديها الكثير مما تختزنه من تفاصيل ووقائع وحكايات «وسط البلد» كمقتنيات ثمينة، وهي المنطقة التي استلهم منها روايته «تغريدة البجعة» والتي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2007. إنها لمغامرة كبيرة أن يُصدر مكاوي سعيد «كراسة التحرير» (الدار المصرية اللبنانية) التي تحكي عن وقائع الثورة، أقول مغامرة لأنّ كمّ الكتب الذي صدر في هذا المضمار تضخّم كثيراً، ما بين يوميات وتوثيق وصور وتأريخ وحكي وتأمل وتحليل، فما الذي يُمكن أن يضيفه الكاتب في كراسه الجديد؟ بالنظارة التي تخفي قدرة الصقر على تحديد الهدف، يلتقط مكاوي سعيد تفاصيل بشر لم ينتبه لهم من كتبوا أو حتى من شاركوا في الثورة، لأنها تفاصيل ملقاة على هامش الحدث، بل هي نفسها هامشية، وهل ثمة من هو مُهمش أكثر من أطفال الشوارع؟ المُلاحظ أن كل التقارير والحكايات التي كُتبت عن الثورة لم تتجاهل دور أطفال الشوارع في الثورة، سواء في جانب الثوار أو البلطجية، لكنّ مكاوي سعيد يلتقط التفصيلة بشكل مغاير ويُقدمها في شكل روائي من وجهة نظر الطفلة «صابرين». تتوالي الشخصيات منها من هو معروف- بير السيوفي وكمال خليل مثلاً- ومنها من هو غير معروف، لكنّ الأكيد أن الهدف لا ينصب فقط على رسم الشخصيات بقدر ما يهدف إلى الكشف عن المسكوت عنه في الثورة، من ناحية العلاقات الاجتماعية وردود الأفعال المختلفة تجاه الحدث نفسه والمبادئ التي تشبّث بها الثوار. والأهم أن كتابة هذه المناطق المعتمة- معيشة الثوار وحياتهم اليومية- تُجيب عن أسئلة لا تزال مطروحة، ومن ناحية أخرى تدحض افتراءات لم يتوان الإعلام عن ترديدها. ولأن العنوان الفرعي لـ «كراسة التحرير» هو «حكايات وأمكنة»، برع الكاتب في وصف المكان ليس بوصفه مساحة، بل بوصفه منظومة ثقافية كاملة، فعمل على تحديد الأماكن التي شهدت الوقائع بدقة، ولم يتوقف عند ذلك، بل جعل لكل مكان تاريخه الطويل، وبالتالي دلالاته السياسية على مدار التاريخ. ورغم أنّ الجزء الأخير من الكراسة مخصص للأمكنة إلا أنّ المكان حاضر بقوة منذ البداية مع صابرين. فالحكاية لابد أن تحدث في مكان، والأشخاص لهم أماكنهم، حتى البلطجية كانت لهم جهة محددة يشنّون منها الهجوم. وحين يحكي مكاوي سعيد عن «أمكنة الضيافة» و«مراكز الميدان» فهو يتحدث عن الفعل في مكان بعينه له تاريخه، ما يؤدي إلى ربط الثمانية عشرة يوماً الشهيرة بتاريخ سابق طويل، ويجعلها امتداداً كاملاً لكل ما سبقها وما هو آت. والدليل أن الإهداء موجه إلى «المفكرين الذين بشروا بها، وأصدقائي الذين لم يلحقوا بها، وأحبائي الذين غادروا قطارها ولم تكتحل عيونهم باستقرارها، وإلى كل شهدائها... وإلى الذين ما زالوا على الدرب سائرين». إهداء يجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالثورة مستمرة بحيث يتغير الأشخاص ولا يتغير المكان، بل يكتسب المزيد من الزخم، فيبدو نص مكاوي سعيد وكأنه ينقّب عن حفريات المعرفة (وفق تعبير فوكو)، وكلما كشف طبقة تظهر غيرها. وكما بدا الموظف المرموق المتخصص في الآثار في قصة «حوش يا حواش» على دراية كاملة بكل قطعة أثرية في مصر وبالتالي كان من السهل عليه التلاعب بها، فإن مكاوي سعيد يبدو على علم بكل حجر في منطقة وسط البلد، ما يُسهل عليه تضفير التفاصيل في لوحة قصصية واحدة. والأعجب أنه توصل إلى تحديد الأماكن التي كان يتواجد بها من في الميدان (الميدان ليس شيئاً واحداً!)، بل كشف عن سلوك الكلاب والقطط أثناء الثورة. وإذا كان كلامه مشابهاً لكتابته، فإنّ الكتابة بدورها مشابهة لحياته أيضاً، فكما يتنقل من مكان إلى آخر- «مرتبط بميعاد» هي جملته الأثيرة - تتنقل كتابته من قصة إلى أخرى داخل الحكاية الواحدة لتنتهي في شكل متسق ومحكم الترابط، ما يُضفي وحدة على ما قد يبدو متشرذماً، تماماً كما يفعل الحكواتي في صولاته وجولاته. في كـــل هذه القــصــص التي تموج بأسماء أشخاص وأفعالهم وأقوالهم، لا يتحدث مكاوي سعيد عن نفسه، رغم الفرصة المتاحة لذلك (ناهيك عن الإغواء). تظهر ذات الكاتب أو بالأحرى رؤيته في تعليقه على الكثير من المواقف، وبخاصة تلك المتعلقة بالثورة المضادة، كما في حكاية «آه يا جملي» و»وقائع هجوم الزرازير» و»التكنولوجيا والأونطالوجيا». تعمل هذه الحكايات على التذكير بمواقف الآخرين «الزرازير»، والتي قد ننساها بسهولة في خضم الأحداث المتلاحقة، وفي الوقت ذاته، تؤدي هذه الحكايات وظيفة الأرشيف، وتحفظ للذاكرة تألقها كما يظهر في حكاية «الحجر الداير» وحكايات الأولتراس واللجان الشعبية. لا أحاول القول إن مكاوي سعيد يكتب التاريخ مثلاً أو يؤرخ للثورة، بل إنه يُوظف منهج التاريخانية الجديدة في الكتابة، فيستخدم الحكايات الهامشية والأبطال المجهولين ويرصد من وجهة نظره ما كان، وهو لا يستثني في ذلك دور النبات والجماد، وكل ما هو غير مألوف ويقوم بعمل الوثيقة. ترصد «كراسة التحرير» وقائع الثورة، أو بمعنى أدق، البنية التحتية للثورة من وجهة نظر مغايرة تماماً، لا تستثني الكبوات والانحرافات والانكسارات، ولا تهمل الإنساني والطريف والقبيح. أتاحت لي قراءة الكراسة استعادة الكثير من التفاصيل التي كادت أن تتلاشى من الذاكرة الجمعية - بفعل فاعل - وسمحت لقصص أخرى أن تتسيّد الحكي. في حين يُمكن ضم «كراسة التحرير» لكلّ من يرغب في «قراءة» الثورة من وجهة نظر من «ثاروا» فإنه يُمكن استخدامها أيضاً كدليل إلى ما حدث، «كراسة التحرير» دليل الثورة الذي يُوظف سياسات الذاكرة.