القراءة والاستماع بوعي صادق تمثلان المدخل لتحليل الأحداث بموضوعية، خصوصاً ونحن في عصر تتسارع فيه الأحداث بطريقة جنونية وبوتيرة سريعة وفي عصر التواصل الاجتماعي، وحتى القنوات الإعلامية العربية والعالمية لا تستطيع تغطية كل الأحداث بسبب الكثرة والسرعة غير المتوقعة، ففي مثل هذا العصر يصعب على الشخص أو المحلل الذي لديه انطباعات شخصية، أن يحلل بتجرد وموضوعية. التحليل الموضوعي هو البحث الصادق عن الاحتمالات والتفاعلات وفهمها فهماً علمياً واضحاً، والإدراك العلمي العميق للأحداث بعيداً عن المبالغة أو التبسيط، وتفسير العلاقات حتى نستطع فهم ما يجري، خصوصاً إذا كانت من الزاوية السياسية، فهنا يجب وضع المجاهر الفاحصة والكاشفة عن الدولة أو الحدث، وفهم الواقع فهماً صحيحاً وموضوعياً. إذن التحليل عبارة عن عملية بحث وتفسير للتوصل للنتائج والأسباب، وهذا يحتاج إلى مخزون معرفي كبير، ومصادر المعرفة غير المتحيزة، وهذا الفن والعلم لا يجيده إلا القلة من الناس المنصفين. وشاهدنا بعض التحليلات السياسية من دكاترة في السياسية ولكن غلبت على تحليلاتهم الانطباعات الشخصية أو المذهبية... فكانت النتائج تحليلات هزيلة لا وزن لها، ومراجعات سياسية يفقهها من هو في سنة أولى سياسة. ما يتميز به الناس في العالم العربي، هو المبالغة الزائدة وتضخيم الأحداث مع البحث عن بعض الأمثلة من التاريخ أو الواقع من دون التأكيد من المصدر الأساسي، أو التبسيط المخل في فهم الأحداث والمواقف، فنشاهد أن غالبية التحليلات مشوهة غير ناضجة تتميز بالعاطفية والانطباعات الشخصية. ويقول روبرت دال في كتابه التحليل السياسي الحديث «إن أي فرد يستطيع أن يفهم السياسة بقدر، ولكن السياسة موضوع غاية في التعقيد، بل وربما هي أكثر المواضيع التي يواجهها الإنسان تعقيداً. وتكمن الخطورة في حقيقة أنه مع افتقاد الخبرة اللازمة للتعامل مع تعقيدات السياسة، فإن المرء ينزع إلى تبسيطها بصورة مخلة». ومثال على ضعف تحليل الأحداث وعدم الموضوعية، هو ما حصل ليلة 15 يوليو في تركيا، فقد حدث انقلاب من قبل بعض العسكر على الحكومة المدنية، ولكنه لم ينجح، وتم إفشاله على يد الشعب التركي بمختلف أطيافه، حتى المعارضة توحدت ضد هذا الانقلاب، ولكن ما يعنينا هو كيف تم تفسير وتحليل ما حدث من قبل بعض المحللين، وكان على ثلاثة مسارات: المسار الأول: هو المعارض لحزب «الحرية والعدالة» فكان يشمت في ما حدث، وينقل عن بعض وسائل التواصل والإعلام ما يوافق هواه. ومع كل أسف شاهدنا قنوات إعلامية كبيرة انجرفت مع التيار، وبعد ما بانت الأمور قامت بمسح كل التغريدات. المسار الثاني: هو المؤيد لحزب «الحرية والعدالة» من دون وعي وتفكير، فكان ينقل كل ما يصل إليه عن الأحداث من دون تثبت أو تأكد، وترك تحليل الأحداث وأخذ يمجد الأشخاص. المسار الثالث: هم الأشخاص الذين حللوا ما حدث بكل موضوعية واقتدار، عن طريق معرفة الخارطة السياسية التركية، وعلاقة الجيش بالسياسة وتاريخ الانقلابات، وتحليلاتهم كانت موضوعية بعيدة عن الانطباعات الشخصية والأماني والمخاوف، وكانوا يبحثون عن الحقائق المجردة بعيداً عن الدفاع عن الأشخاص، وكل مصادرهم كانت موثوقة... هؤلاء هم الذين يستحقون الاستماع والاحترام. akandary@gmail.com