كل شيء في البحرين يومها كان من عبق الماضي. والمشهد في قصر الرفاع كأنه في مسرحية أندلسية: الصقور مع حاملها على مدخل المجلس الرئيسي، وحاملو أباريق ماء الورد لمن يغسل يديه، وحَمَلة القهوة يتسارعون في كل اتجاه، والأمير الشيخ عيسى، يطمئن على كل واحد بمفرده: كيفك يا أخي. كيف الأحوال. كيف الأهل. مرتاح عندنا؟ لا تنسَ أننا قادمون يومها من لبنان: لا صقور ولا أباريق ورد، ولا شيء من التقاليد التي كنتَ تقرأ عنها في الكتب. وعندما حان موعد الغداء إلى مائدة الشيخ عيسى، جلس الجميع إلى جانب الجميع. الباشا إلى يمين الأمير، ثم السادة الأعضاء، ثم المرافقون والسائقون. لا يحدث ذلك في الكرملين عند نيكيتا خروشوف، لكنه يحدث هنا. وأبو علي يتفقد الجميع. آه، نسينا أبو علي، إبراهيم كانو، مدير الإذاعة، حسب موقعه الرسمي. أما عمله الحقيقي، فإنه «مدير الحركة» في الجزيرة. هو في كل مكان. يمازح حَمَلة الصقور ويسأل عن أولادهم. وهو في الفندق يطمئن إلى راحة الضيوف. وهو في الاستوديو يذيع أخبار الزيارة. وهو ينحني على أذن الأمير، يذكِّره بأمر ما. وهو ضاحك، باش، ودود، يدفعك إلى الاعتقاد بأنك تعرفه من ألف عام. هو الذي إذا بثت الإذاعة أغنية لأم كلثوم، عرف أهل الحكومة أن حدثًا عربيًا مهمًا قد وقع، فيتهافتون ويتدارسون. وهو إذا احتاج في تسجيل مسرحية إلى صوت الريح نفخ في سعفة من نخيل. وإذا كانت عاصفة نفخ في سعفتين. ولم يكن شيء يغير في طلة أبو علي وابتسامته ولهفته، سواء التقيته في المنامة، أو في أثينا، أو في لندن. ألستَ تعرفه منذ ألف عام؟ ماذا نكتب عن المحادثات نفسها؟ ثمة صعوبة مثلثة في الأمر، إليكم شرحها: أولاً، وثانيًا وثالثًا. الأول، أن الشيخ عيسى يفضل الإصغاء على الكلام، على قاعدة «الفضة والذهب»؛ ثانيًا، الباشا عبد الخالق مثل الجامعة التي يديرها، لا يريد إغضاب أحد ولا إزعاج أحد؛ ثالثًا، مساعده الدكتور سيد نوفل لا يتوقف عن الكلام في كل الأمور إلا شأن الزيارة، لأنه يريد أن يخبئ ذلك للكتب التي سوف يصدرها عن الخليج بصفته خبيرًا في شؤونه. على أن الباشا ومساعده كانا يتركان شيئًا يقولانه لموفد «الأهرام» شرط عدم ذكر المصدر. خلِّها بقى «مصادر شبه رسمية، أو حاجة زي كده». ومن لم يكن يخشى أن يُزعل زكريا نيل. فهو أعلى صوتًا. وأكثر انتشارًا وصداقات. كان التعرف عن قرب إلى عبد الخالق حسونة، ثاني أمناء الجامعة وأكثرهم استمرارية، كان حدثًا. والباشا الأنيق كان الأكثر تواضعًا. وعندما وصلنا إلى دبي وأصبت بوجع في الضرس، كان أول سؤال يطرحه الباشا في الصباح «إزي الأسنان النهارده»؟. وما كان يخفيه الباشا وسيد نوفل كنت أستقيه من الشيخ محمد منصور الرميح، أبو منصور، الذي ستبدأ معه صداقة بلا انقطاع. إلى اللقاء..