كانت أوقاتاً قاسية حُبست فيها أنفاس العالم بأسره، بدا الوجوم على الوجوه، الأبصار شاخصة، القلوب تخفق، الترقب يسود، الأنباء تتوارد، وكالات الأنباء تتضارب، أفراحٌ هنا، أحزانٌ هناك، شماتةٌ تظهر، ومناجاة تتعالى، ليلة صاخبةٌ هادئة، آثارها خافضة رافعة... استيقظ العالم على خبر إعلان الانقلاب العسكري في تركيا، وسيطرة الانقلابيين على الإذاعة الرسمية وقطع الجسور الاستراتيجية ونزول الدبابات الميادين وتحليق للمروحيات وقصف قرب القصور الرئاسية والبرلمان التركي، فإعلان حظر التجول أعقبه إعلان مجلس السلام! كانت وكأنها أوهام وأحلام! ما مصير تركيا أردوغان؟! وعلى أى وتيرةٍ وسيناريو يسير بنا الانقلاب؟! هل انقلاب 27 مايو/أيار 1960 على (عدنان مندريس) رئيس الحكومة و(جلال بايار) رئيس البلاد؟! أم انقلاب 12 مارس/آذار 1971 الذى عُرف بانقلاب (المذكِّرة) حيث أرسل قادة الانقلاب مذكرة بدلاً من الدبابات؟! أم هو انقلاب (كنعان إيفرين) في 12 سبتمبر/أيلول 1980؟! وربما يكون انقلاب 1997 على (نجم الدين أربكان) الذي عرف بالانقلاب الأبيض؛ لأنه أخذ طابعاً مدنياً من المعارضة التركية، خاصة حزب الشعب العلماني الكمالي؟! باتت تركيا أمام مفترق طرق، فإما السيناريو الفنزويلي ودحر الانقلاب بعد ساعات، أو السيناريو المصري؛ حيث سيطرة الجيش على مفاصل الدولة، ومن ثم بحور من الدماء والاعتقالات والقمع تطال المعارضين. أسئلة تدور في أذهاننا ونحن نتابع وكالات الأنباء والأخبار العاجلة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا نعرف إلى أي مصير تسير تركيا! وأمام كل هذا يظهر أردوغان من خلال مكالمة صوت وصورة مدتها ثوانٍ يعلن فيها عدم الاستسلام، يدعو فيها الشعب للنزول، معلناً أنها ساعات وسيتم دحر منفذي هذا الانقلاب، وإذا بالشعب التركي (من مؤيدين ومعارضين للنظام) يخرج للميادين والمطارات عن بكرة أبيه، رافضاً الرجوع لعصور ظلام الانقلابات، مدافعاً عن تجربته الديمقراطية ساخطاً على العسكر. ومع إعلان الانقلابيين احتجازهم لرئيس الأركان (خلوصي أكار) بدت اللعبة تتضح بعض الشيء والأمور تتكشف، فالانقلاب بدا وكأنه ليس من قادة الصف الأول، وإلا فلماذا اعتقال خلوصي أكار؟! حاول الانقلابيون السيطرة من خلال ضرب أهداف استراتيجية عن طريق سلاح الطيران، وأيضاً تخويف الحشود بإطلاق النيران تجاهها! ولكن لم تعبأ الحشود في مشهد أسطوري وواصلت ملء الميادين في إسطنبول وأنقرة وغيرها، فلم يستطع الانقلاب السيطرة في الساعات الأولى بعد إعلانه، وكما تعلمون الساعات الأولى هي الأكثر أهمية في مصير الانقلاب، فإن استطاع السيطرة دانت له البلاد، وإن تمت مواجهته بشدة كُتب عليه الفناء، وهذا ما تم. لاحت في الأفق أسباب انهيار الانقلاب، فكنت من السابقين -ولله الحمد- في إعلان فشله، فالمعارضة التركية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار رفضت هذا الانقلاب جملة ومضموناً، في موقف تاريخي يحسب لها، وسيسطره التاريخ بأحرف من نور، وبالتالي فشل الانقلاب في تبييض وجهه بغطاء مدني، عكس آخر انقلاب ضد القائد نجم الدين أربكان، حتى حزب الشعب العلماني كان في مقدمة الأحزاب الرافضة، وهو يتمتع بشعبية ليست بالقليلة في تركيا. إعلان رئيس الاستخبارات التركية أنه ستتم ملاحقة مجموعات الانقلابيين (الصغيرة) وتوجيه الضربات لها، والسيطرة على الأمور في أسرع وقت، بالإضافة لدور القوات الخاصة، وموقف الشرطة التركية المشرف التي نزلت الساحات لحماية الجموع، ووصل بها الأمر إلى الاشتباك بالأسلحة مع مجموعات انقلابية مسلحة من الجيش واعتقلت أعداداً منها، وكان الدور الأبرز لجموع الشعب الواعية التي أبت أن ترجع قروناً ضوئية للوراء بعد نهضة اقتصادية سياسية عسكرية تعليمية تحققت لها في الفترة الأخيرة على يد أردوغان، اللافت للنظر هو حماس كبار السن قبل الشباب، فمعاصرتهم لأكثر من انقلاب بنتائجه ثم معاصرتهم للنهضة الشاملة لتركيا، جعلتهم يشعرون بالواجب الوطني تجاه دينهم وعرضهم، ومن ثم الثورة على هذا العبث. تلاشى السيناريو المصري للانقلاب، وسيطر السيناريو الفنزويلي لدحر الظلم والفساد في أعظم تجلياته في ست ساعات لا 72 ساعة كما كان حال النسخة الفنزويلية الأصلية. لم ولن ننسى مشهد الأذان وهو ينطلق من مآذن تركيا التي هزمت بفضل الله مدافعها، ولن ننسى هتاف الجموع "باسم الله، الله أكبر" مع القرآن الكريم المنطلق من مكبرات الصوت، وصلاة الجموع في الميادين، إلى مشهد وقوفهم أمام الدبابات واعتلائها والقبض على جنودها، حتى مشهد اعتقالات المتورطين في الانقلاب من الجيش والقضاء والنيابة وكافة مؤسسات الدولة (الكيان الموازي)، ولن ننسى شماتة إيران وجيوبها، خاصة في الضاحية الجنوبية بلبنان، وأبواق إعلام الخزي والعار المصرية والعربية التي ما لبثت أن أعلنت نجاح الانقلاب قبل أن يبدأ من الأساس، وأخذت تطبل وترقص وتهلل عن طريق سحرتها المرضى! ستكشف الأيام القادمة تفاصيل أكثر عن الانقلاب في الداخل، وعن تمويله من الخارج، وسيحاكم هؤلاء الفسدة بتهمة الخيانة، ولن يسامحهم التاريخ في صفحاته، هدأت نفوسنا وأرواحنا بعد أن كادت تصل الحلقوم، وزال قلقنا على مستقبل المعارضين السوريين والمصريين في تركيا، نتمنى أن يلقى فشل الانقلاب في تركيا بظلاله الإيجابية على الربيع العربى من جديد، ويكون شعلة انطلاق لاستعادة زمام أمور ثوراتنا في فصلٍ جديد ومشرف، في جولة يكون النصر فيها للحق بإذن الله. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.