كان العقد الأول من القرن الخامس عشر الهجري من أكثر العقود احتداما بين خطابين رئيسيين، خطاب الصحوة وخطاب الحداثة. ومن الملفت ان الخطابين تبلورا من أرواح شابة كانت لكل منهما رؤية للمستقبل مع تفاوت في عمق التجربة. ما زالت الأسماء التي صنعت ذلك المشهد- في المجمل - معاصرة لما بعد هاتين الموجتين وشاهدة عليهما. لذلك، سنجد اليوم قراءات لهذين الخطابين، ممن كان يصنع هذا الخطاب. إلا ان الملفت في الأمر أن هذه القراءات مع تنوعها ما زالت ضدية. فصانع الخطاب الحداثي، مثلا، مازال يثني ركبته عند أرشيف المرحلة الخاص والعام، يقلب في دفاتره ليفهم التجربة. الإجابة على سؤال حركة التاريخ ليس سهلا، لكن قراءة التجربة حتى الآن ما زالت متأثرة بالخطاب نفسه، فالخطاب يقرأ غيره لا نفسه. إن تلازم الخطابين في عقد واحد يدل على تلازم التجربة كون كل واحد قطعة مكملة للآخر لا يجب أن تقرأ على حدة. ملامح الخطابين تشي بذلك، لكن ما يجري اليوم أن الخطاب يعيد قراءة الآخر ولا يعيد قراءة نفسه. هذا يعني ان الخطابين ما زالا نهرين يجري كل واحد منهما ويتشكل حسب الجغرافيا، يتسع في السهول المنبسطة ويضيق في المرتفعات الضيقة، يجري على السطح مرة ويجري تحت الصخور مرة أخرى. لكن قراءة الآخر بحد ذاتها ليست هي المشكلة. المشكلة في عدم قراءة الذات ومراجعتها. والمراجعة لا تعني التخلي عن الخطاب واستبداله بغيره فقط، بل تعني إعادة قراءة الخطاب نفسه بروح جديدة أيضا. وما يجري بعد مرور عشرين عاما على احتدام الخطابين في مشهد واحد، أن القراءات تتعدد، لكنها تتفرد في قراءة الآخر، وتتجرد من أي تأثيرات جديدة. ومما يفسر جريان النهرين بالتوازي دون مراجعة أحدهما لنفسه، أن الخطابين انتقلا من المشهد الأدبي إلى المشهد السياسي. أي أن الخطاب انتقل إلى مسرح جديد. فرحلة الاسم من الحداثة إلى الليبرالية تعبر عن رحلة المسمى. لكن من علامات المشهد الجديد، تخلي الخطابين عن العمق النسبي الذي كان يتسم به الحوار سابقا. فمع اتساع رقعة المشاهدة، أصبح من أوليات الخطاب أن يصل إلى عدد أكبر من الحشود. لكن هل أصبح المشهد (سيركا) بدل أن يصبح (مهرجانا)؟ إن ما نحتاجه أن يكون الخطاب غيمة لا نهرا. أن يصبح الخطاب غيمة تمر فتمطر ثم تذوب في سرب من الغيمات فلا تعود مرة أخرى. إن خطاب النهر يتموج حسب الجغرافيا لا التاريخ. فالنهر من أوله إلى آخره نفسه مهما ضاق أو اتسع. قد تتغير الأشجار التي تقيم على ضفافه، والناس الذين يلقون جرارهم فيه، لكن صورتهم فيه كما هي في أوله وآخره. لذلك أنا مع خطاب الغيمة الذي يترك توقيعه على الرمال ويرحل.