القاهرة: جمال القصاص «هذا جدار الفصل العنصري.. استبدلوا بالقبح قبحا آخر».. قالها الرجل وهو يتأمل البوابة الحديدية التي يقيمها مهنيون من القوات المسلحة بشارع قصر العيني الشهير، أحد المداخل الحيوية إلى ميدان التحرير بالقاهرة لصد المظاهرات. وتابع الرجل الخمسيني، ويدعى أنور، محاسب بأحد البنوك الخاص: «يا سيدي، هؤلاء الذين فكروا في هذا القبح لا يقرأون التاريخ ولا يستفيدون منه.. هذا الجدار الحديدي لن يمنع المظاهرات، وسيتحول بمرور الأيام إلى رمز للعبودية، وتحطيمه سيكون رمزا للحرية». ويروي التاريخ أن أبواب القاهرة التاريخية لم تستطع أن تصد الغزو العثماني لمصر؛ فعلى «باب زويلة» الشهير شُنِق السلطان الشاب طومان باي، آخر ملوك دولة المماليك، على يد السلطان العثماني سليم الأول، وظلت جثته معلقة ثلاثة أيام، قبل أن يجري دفنها. وبموت طومان باي طوت مصر صفحة الخلافة العباسية، وأصبحت ولاية عثمانية. أبواب القاهرة التي شيدت خلال تلك العصور، كانت بمثابة حصون لضبط الأمن وحمايتها من اللصوص ومن أي غزو خارجي، ومن أشهرها «باب النصر.. وباب الفتوح.. وباب الحديد.. وباب الشعرية». وبمرور السنين تحولت تلك البوابات إلى شواهد أثرية، حيث تُعَد من روائع العمارة الحربية في الحضارة الإسلامية؛ لما تميزت به من شموخ وروعة وجمال في الفن المعماري والتصميم. اليوم وبعد قرون كثيرة تستعيد القاهرة إيقاع هذه البوابات التاريخية، حيث قرر وزير الداخلية، بالتنسيق مع محافظ القاهرة، إزالة الحوائط والكتل الخرسانية من شارع قصر العيني، أحد أهم المداخل الرئيسة إلى ميدان التحرير، أيقونة الثورة المصرية، وفي محيطه تقبع أهم مؤسسات الدولة، على رأسها البرلمان، ومجلس الوزراء، وعدد من الوزارات المهمة، من أبرزها وزارة الداخلية والصحة، بالإضافة إلى مجمع التحرير، أكبر مبنى إداري حكومي، ومقر الجامعة الأميركية، كما يتقاطع الشارع مع عدد من أحياء القاهرة العريقة، مثل حي جاردن سيتي الراقي، حيث توجد السفارتان الأميركية والبريطانية، وعدد من سفارات الدول الغربية، ودار الحكمة مقر نقابة الأطباء، ومستشفى قصر العيني، كما يتقاطع مع حي المنيرة العريق، حيث يوجد بيت وضريح زعيم الأمة سعد زغلول. وعلى الرغم من أن الكتل الخرسانية شكلت حلا أمنيا مؤقتا في تأمين الشارع ومنشآته الحيوية من أعمال الشغب والعنف التي رافقت كثيرا من المظاهرات التي شهدها الشارع ومحيطه، على مدار الثلاثة الأعوام الماضية، منذ قيام ثورة 25 يناير عام 2011، وبلغت ذروتها في أحداث مجلس الوزراء، التي شهدت حريق المجمع العلمي المصري الذي يضم ذخيرة من التراث العلمي المصري، وعددا كبيرا من المخطوطات والوثائق العلمية النادرة، بينها كتاب «وصف مصر» الشهير الذي وضعه مجموعة من العلماء الفرنسيين المرافقين للحملة الفرنسية على مصر في عام 1798.. على الرغم من كل هذا، فإن الكتل الخرسانية شلت حركة المرور في الشارع، وشوهت سمته التاريخي، وأصبحت مصدر إزعاج لكثير من السكان. سكان الشارع الذين استيقظوا يوم أول من أمس على أصوات الجرافات والبلدوزرات وهي ترفع الكتل والحواجز الخرسانية، وإقامة بوابة حديدية بدلا منها، يسهل فتحها وإغلاقها، عند اللزوم، استقبلوا الأمر بمشاعر متباينة، حيث تقول انشراح، وهي سيدة تقطن في الشارع نفسه من ناحية جاردن سيتي: «أنا ضد الحواجز الخرسانية والبوابة الحديدية، أريد أن يعود الشارع إلى طبيعته، نظيفا وجميلا كما كان.. لقد كان من أجمل شوارع القاهرة». تتابع انشراح: «الحكومة صدعتنا بالكلام عن الأمن ودولة القانون.. لكن هذه البوابة الحديدية تؤكد أن هذا الكلام أجوف، ولا معنى له».. وتضيف بنبرة ساخرة: «أخشى أن تتحول كل شوارع القاهرة الرئيسة إلى بوابات حديدية». وعلى عكس انشراح، يرى طارق، وهو سائق تاكسي، أن هذه البوابة ستساهم في حل مشكلات المرور بالشارع والمنطقة المحيطة، مشيرا إلى أنه في أثناء إغلاقه بالحواجز الإسمنتية أصبح «(المشوار) الذي يستغرق عشر دقائق يأخذ ساعة أو أكثر». من جانبه، أكد اللواء حسن البرديسي، مدير الإدارة العامة لمرور القاهرة، أن الحواجز الإسمنتية كانت تشكل عبئا كبيرا على المواطنين، وكانت تؤثر بالسلب على الحركة المرورية بوسط البلد. وأشار البرديسي إلى أنه جرى إنشاء بوابات حديدية بدلا من الحواجز الخراسانية بشارع قصر العيني، لفتحها أمام حركة المرور والسيارات، بواقع أربع حارات مرورية في الاتجاهين. ولم تسلم البوابة الحديدية الحديثة التي سيجري طلاؤها بألوان علم مصر الثلاثة، من سخرية نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، فعدّها أحدهم على صفحته بموقع «فيس بوك» بمثابة خطوة لتحويل الميدان إلى «سجن اختياري» لمن يريد التظاهر، وأنها مؤشر لعودة الممارسات «القمعية» في الفترة المقبلة، كما أنها تذكّرنا بعصر دولة المماليك. وشبهها آخرون ببوابات المعابر الحدودية والسجون العمومية، ودعوا إلى حفر أنفاق أسفلها بعد بناء «نقاط تفتيش حدودية»، وذلك لـ«تهريب الثوار إلى ميدان التحرير»، على حد قولهم.. وأمعن أحدهم في السخرية قائلا إنه «بعد أيام سيكون العبور بتذاكر».