×
محافظة الحدود الشمالية

ضبط حلاق حاول إدخال حشيش إلى السجن بمحافظة طريف

صورة الخبر

مثل من سبقوه من المفكرين والكتاب المصريين في الرحلة إلى الغرب والالتقاء بحضارته ومنابعها ومواجهة الصدمة التي نشأت عن هذا اللقاء، وربما أكثر منهم، كانت رحلة توفيق الحكيم (1925) أكثر تجسيداً للتضاد والمقارنة بين حضارة الغرب وحضارة الشرق، وستظل تلازمه طوال حياته الفكرية وتطبع إبداعاته حتى تصل به إلى مرحلة المعادلة كما ظهرت في كتابه «التعادلية» (1955). ولعل «عصفور من الشرق» (1938) هو أكثر أعمال الحكيم تجسيداً لتجربته العقلية والروحية ولتشتته وتوزعه بين حضارته الشرقية وبين حضارة الغرب، ومجهوداته وبحثه عن «ملاذ» يحتمي به في وجه هذه الحضارة. وربما ما كان له دلالة في هذا الشأن، أن يهدي هذا الكتاب «إلى حاميتي الطاهرة السيدة زينب»، وربما ما له دلالة كذلك أنه كتبه بعد أن كتب أعماله ذات الأساس الديني والتاريخي والروحي، بل والاجتماعي: «محمد»، (1936)، «عودة الروح» 1933، «أهل الكهف» (1933)، «شهر زاد» (1934)، و «يوميات نائب في الأرياف» (1937). كذلك كان «عصفور من الشرق»، في أحد وجوهه تسجيلاً وعلى لسان صديقه الروسي لرؤيته النقدية للحضارة الغربية وثغراتها وتناقضاتها ونقدها حتى في أكثر جوانبها تقدماً مثل العلم والصناعة والأدب «وتآمرها على الفضائل الإنسانية العليا»، غير أنه إذا كان بطل الحكيم الروسي الذي أجرى على لسانه هذا النقد يضعه في مقابل الشرق وفضائله وقيمه واعتباره «أن أجمل ما بقي لأوروبا، إنما أخذته عن الشرق»، إلا أن الحكيم على لسان بطله الآخر، لا يغفل عن واقع الشرق الذي أصبح «غابة على أشجارها قردة تلبس زي الغرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك». ويبدأ توفيق الحكيم في مقارناته أو مقابلاته بين الشرق والغرب بما يمكن أن نسميه «المشكلة الاجتماعية»، أو وجود أغنياء وفقراء وسعداء وتعساء على هذه الأرض والتي يعتبرها «مشكلة الدنيا التي لم تحل». فبينما يرى بطل توفيق الحكيم الروسي أن أنبياء الشرق قدموا حلاً لهذه المعضلة حين فهموا أن المساواة لا يمكن أن تقوم على مملكة الأرض وأنه ليس في مقدورهم تقسيمها بين الأغنياء والفقراء فأدخلوا في القسمة «مملكة السماء» وجعلوا أساس التوزيع بين الناس «الأرض والسماء معاً»، فمن حُرم الحظ في جنة الأرض فحقه محفوظ في جنة السماء. أما الغرب الذي أراد أن يكون له أنبياؤه أيضاً، فقد عالجوا هذه المشكلة من باطن الأرض وفي ضوء العلم الحديث، فجاء كارل ماركس ومعه «رأس المال» وأراد به أن يحقق العدل على هذه الأرض، فقسمها بين الناس ونسي «السماء»، فماذا حدث؟ حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعض ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتاً على هذه الأرض، أما الشرق وأنبياؤه فقد أبقوا زهرة «الصبر»، والأمل في النفوس يوم قالوا للناس: «لا تتهالكوا على الأرض، ليست الأرض كل شيء. إن هنالك شيئاً آخر غير الأرض. سيكون لكم شيء آخر يدخل في التوزيع. الإنسان لا يحيا من أجل الخبز، كما أنه لا يعيش من أجل الخبز وحده». وينتقل بطل توفيق الحكيم إلى التحليل والنقد التفصيلي لقيم وواقع وممارسات الغرب وتأثيرها في غيره من البشر، بل وفي أبناء الغرب أنفسهم وافتقادهم السعادة الحقيقية. الغرب عنده ليس إلا «هذه الفتاة الشقراء التي تسمى أوروبا»، جميلة، رشيقة، ذكية، ولكنها خفيفة أنانية لا يعنيها إلا نفسها واستبعاد غيرها، بل هو يخشى أن تكون أوروبا موشكة على دفع الإنسانية إلى هوّة. وهي إن كانت قدمت إلى الناس بعض الراحة في وجوه حياتهم ومعاشهم، إلا أنها أضرت البشرية وسلبتها طبيعتها الحقيقية وشاعريتها وصفاء روحها، بل إن هذا النقد يطاول الحضارة الأوروبية في أبرز إنجازاتها وهي الصناعة التي يراها وقد شطرت المجتمع الأوروبي: فئة قليلة كل همها جمع المال، وفئة كبيرة كل همها أن تقدم هذا المال مقابل لقمة. الفئة الأولى لا دين لها إلا الذهب، والفئة الثانية لا دين لها إطلاقاً ولا شخصية ولا نفس، لأنها آلات صماء. بينما ما زال الرجل الشرقي يحس بآدميته بالنسبة للشر الذي يصنعه ويخلقه بيديه. فهو لم ينقلب بعد منشاراً آدمياً أو مخرطة بشرية. كذلك يتعرض بطل الحكيم بالنقد العنيف لأحد الإنجازات التي يفاخر بها الغرب وحضارته وهو العلم التطبيقي، أو التكنولوجيا، والذي كان له تأثيره في النفس الإنسانية، بل وفي أجسام البشر حين فصلها عن الدين وعن الطبيعة ومنابعها وأسرارها المباشرة، وحين استحال إلى قنابل وغازات خانقة وطوربيد وغواصات ودبابات تفتك بأجسام البشر. هكذا، كان كل محور العلم التطبيقي في الغرب هو تحطيم البشرية روحاً وجسماً: «... إن العلم، تلك الماسة العظيمة المتألقة تضعها، أوروبا في قمة عمامتها لتشيع نوراً وجمالاً ولكنها وضعتها سن مخرطة بخارية، لتقطع بها زجاج تلك الكأس العظيمة، كأس البشرية الممتلئة بماء روحها ومادة جسدها، ولا ينسى بطل الحكيم أن يذكر بتاريخ أوروبا وممارستها المعادية للعلم وحرية الرأي والفكر، والمناقضة لمبادئ المسيحية...» لا تنس أن أوروبا هي الوحيدة التي أعدمت في يوم كل علمائها حرقاً، واتهمتهم بالسحر والجنون، وخنقت حرية الرأي حتى في شؤون الأدب والفن. وجعلت من المسيحية التي تبشر بالمحبة والسلام، سلاحاً للفتك أمام محاكم التفتيش. غير أن أوروبا اليوم أصبحت أبرع في إخفاء خصائصها ونوازعها القديمة، فهي تجيد إخفاء حيوانيتها تحت ريش اصطناعي يمثل أجنحة ملاك سماوي أن أوروبا اليوم في أزمة شديدة. لا شك في أنها أخطر أزمة مرت بها، ذلك أنها تنبهت إلى أن ما زعمته مدينة عظيمة قد أفلس، وظهرت من تحت الريش أنياب الخنازير البرية. غير أن الشرق الذي أراد إيفان الروسي أن يرحل إليه أو توفيق الحكيم الآخر، سممته الحضارة الأوروبية بأفكارها ومظاهرها وأساليب حياتها وأفقدته زهده ونقاءه وقضت على بذور المثل في نفوس أبنائه، وجعلته يتبنى أساليب وأدوات حياتها وبصورة أصبح معها من السهل «أن تقنع شرقياً اليوم بأن دينه فاسد، ولكن ليس من السهل أن تقنعه بأن الصناعة الكبرى هي عجلة إبليس التي يقود بها الإنسانية إلى الدمار وأنك قد تستطيع مطلقاً أن تقتلع من رأس الشرقي عظمة السماء، ولا تستطيع مطلقاً أن تقتلع منه عظمة العلم الأوروبي الحديث»... «نعم، اليوم لا يوجد شرق. إنما هي غابة على أشجارها قردة تلبس زي الغرب على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك». كانت هذه هي صورة الشرق والغرب كما تقابلا في فكر توفيق الحكيم عندما سجلها عام (1938) وفي وقت كانت الدنيا تضطرب بأفكار جديدة وتصادم في الاتجاهات المختلفة والعقائد والتقاليد وحيث كانت أفكار أوروبا تنتقل بسرعة إلى الشرق القديم، كما كان الشرق القديم يشغل أوروبا بصور غامضة أحياناً ويمُثل الروحية أحياناً أخرى. غير أنه إلى جانب هذه الصورة وما مثلته من صراعات فكرية لدى توفيق الحكيم بين الغرب والشرق، ثمة صورة أخرى، على رغم أنه نشرها عام (1943)، إلا أن وقائعها التي تصارعت في فكر توفيق الحكيم جرت في فترة مبكرة، وسجلها الحكيم خلال سنوات إقامته الأولى في باريس منذ عام (1925) وامتدت إلى سنوات قليلة بعد عودته عام (1928)، ونعني بها رسائله التي تبادلها مع صديقه الفرنسي أندريه. ففي هذه الرسائل التي تتضمن تجربة توفيق الحكيم الحية اليومية مع الحضارة والثقافة الغربيتين، ومن ثم تكوينه الثقافي ومصادره من فكر وأدب وفن وموسيقى، نجد كذلك مقابلات يجربها توفيق الحكيم بين حضارة الغرب، بمعناها الروحي والثقافي، كما تتمثل أساساً في الفن والفكر والآداب الرفيعة، وبين الحالة الحضارية من هذه الوجوه في بلاده. ففي «زهرة العمر»، يخاطب توفيق الحكيم صديقه ويبثه أسفه على تدني حالة الفكر والفن في مصر: «آه يا آندري... كل يوم تبرهن لي الظروف على أني كلما دنوتُ من منطقة الفن والفكر في مصر أُصاب بخيبة أمل. إن روح الجمال والفن لم يحل بعد، وعلى الأصح لم تُبعث من جديد في أرض مصر الحديثة». ويقوده هذا إلى القول: «... نحن نعيش اليوم في عصر حضارة عظيمة هي الحضارة الأوروبية، فأي جهل منا بفرع من فروع هذه الحضارة معناه التخلف والقعود». ويصور رحيل توفيق الحكيم عن باريس عائداً إلى وطنه في 25 أيار (مايو) 1929، مدى افتقاده باريس وهو ما اعتبره كارثة ترقبها بذعر وفزع، ولم يعد من أمل لديه، إلا أن ينتظر رسائل صديقه لكي يحول إليه في صحرائه «نسيم أوروبا العظيمة»، والتفضل على ساكن الصحراء ببعض نفحات «أوروبا العاطرة»، ويصور بعد عودته عمق «الصدمة الحضارية» التي واجهها بقوله: «لقد عدتُ إلى الشرق كمن وقع من السحاب حقيقة، ثم أخذتُ اتصفح الوجوه والأشياء من حولي. يا لها من حقيقة مؤلمة، رأيتُ نفسي في شبه عالم نائم، لقد شعرت بما شعر به من يهبط سطح القمر الأجرد المعتم». ويبدو أن فكرة التلاقي بين الشرق والغرب التي بدت بذرتها في «زهرة العمر» قد تطورت في شكل أوضح في «تحت شمس الفكر» (1938) حيث أطال الحديث عن «الروح الشرقي» في مصر وتراثها، ليس بالمعنى الانغلاقي، وإنما بهدف دعم الثقافة الشرقية والعمل على إنهاضها لتقف إلى جانب الحضارة الغربية «قوية غنية».   * كاتب مصري