الخلود لمن منحوا هذه الحياة بُعدًا موازيًا. هؤلاء الذين استطاعوا القبض على قلب الفعل الإنساني اليومي لمراحلهم الزمنية وتجسيده فنًا، حتى إذا مرت السنين وفعل المؤرخون ما يفعلونه عادة في تاريخ الإنسانية، تبقى لنا الروايات والسينما والدراما، حيث فرصة الواحد في أن يرى ويعرف ويُقيّم، ويستمتع. محمد خان، مؤكد، واحد من هؤلاء الخالدين. ذهب فجرًا بروح في عزّ الشباب. روح تَواصل عبرها فكريًا مع أحدث صُنّاع السينما ومُتلقيها، بأعمال تبتعد عن القتامة. أفلامه الحديثة راحت للألوان المبهجة، واستوعبت في خلفيتها أصوات ليلى مراد وسعاد حسني كموسيقى تصويرية، هكذا دون عناء، وإن اختلف البعض عليها. المسألة مسألة ذوق. -2- لست مضطرا لفتح "ويكيبيديا" حتى أتذكر أفلامه من أجل الكتابة. سأكتب فقط عبر الذاكرة. لا، عبر الوجدان: الحريف، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، خرج ولم يعد، سوبر ماركت، في شقة مصر الجديدة، موعد على العشاء، فارس المدينة، مشوار عمر، يوم حار جدًا. -3- لم يعرف تاجر الشاي الباكستاني الذي جاء مصر منذ سنوات بعيدة، وتزوج سيدة مصرية، أن ابنه سيصير أحد أركان السينما العربية. المؤكد أيضًا، أن الأب لم يضع في حساباته مدى الأضرار النفسية التي سوف يعانيها هذا الابن من كونه لن يستطع حمل جنسية بلده "مصر"، وأن معاناته سوف تتضاعف بسبب حمله جنسية بلد "يرعى الإرهاب"، كما قال من قبل. لأسباب خاصة بجهلي، لم أكن أعرف أن المخرج الكبير محمد خان ليس مصريًّا. وما لم أستوعبه، أن الرجل كان طالب بمنحه الجنسية أكثر من مرة ولم يهتم أحد. بل إنه كاد يترجى الحصول عليها، وأنت تحسب أن مثله، تمنحه الدولة جنسيتها بمجرد إشارة للموضوع من وزير ثقافة أو نقيب للسينمائيين. كيف للفنان "غير مصري" أن يقدم أعمالًا لم يقف أثرها عند تشكيل وعي عدة أجيال، بل صنعت مع أعمال مجايليه من المخرجين، ما وازن الحالة السينمائية في مقابل انتشار أفلام المقاولات في الثمانينيات والتسعينيات. هل كان محمد خان يطالب بالجنسية المصرية، طمعًا في ميزات عظيمة تتوفر لحاملها، وليس حبًّا في هذا البلد؟ ما الذي لدينا، كمصريين، ونعزّه على رجل مثله؟ ربما مجانية التعليم! الجنسية المصرية ذهبت إلى وديع الصافي وهو الذي لم يطلبها أو يحتاج إليها، بعدما غنى "عظيمة يا مصر"، فقط من باب التكريم. وخان كان ابنًا بارًا لثقافة "الساعين على الرزق" في هذا البلد. الموضوع كان يتجدد كل فترة ثم "تبرد ناره" بتعبير إبراهيم داود. وهكذا حصل محمد خان على الجنسية بقرار رئاسي وهو 72 سنة. عاش مصريًا 3 سنوات على الورق، لكن عمر مصريته يختلف بحساب الشوارع والبيوت التي دخلها وخلد أحوالها. لن أندهش كثيرًا لو رأيت دورة مهرجانت السينما المقبلة تكرّم اسمه. عادي. الحكومة تنسى عدم عنايتها بأصحاب القيمة بمجرد أن يرحلون. محمد خان لم يستطع تمثيل مصر في المهرجانات العالمية لسنوات طويلة. لطالما تكلم بحزن عن هذه المسألة، لكنه سيمثلها في كتاب التاريخ. أو ربما هي ستمثله في حكاياتها الموازية للواقع. السنوات المقبلة لن تصدق أنه لم يكن مصريًا. لا بحسابات الشيفونية، ولكن بحسابات الصورة.