يهدف بعض الدعاة إلى صيد قدر وافر من الجماهير التي تدخل معهم في لحظات الاحتلال العاطفي الكامل لما يشبه التقديس، وأن تزفهم لدوائر الانتصار متى ما كان الميدان متاحاً للعمل على هذه الـ«زفة»، في ظل أن المواصفات المحلية لمصطلح «داعية» في إطارنا الاجتماعي لا تتجاوز حاجزي الـ«كاريزما» والحضور الصوتي المتدرج، وفق متطلبات المشهد وسخونة الحدث. لسنين طويلة ونحن متابعون بشغف لمن يتحول إلى داعية في بضعة أشهر، ويستثمر العطش الاجتماعي الدائم للسماع، ويقدم نفسه بوصفه متحولاً تائباً راغباً في أن يكفّر عن ذنوبه، ولو على حساب المتسمرين أمامه، والمنذهلين من براعته في طمس سيرته السابقة، وتنصيب سيرة سريعة محاطة بالضوء نفسه، والحديث كما يفعل الأوصياء بالضبط! الجماهيرية مغرية حد الرغبة في الخروج عن أي نص والقفز على أي محذور، تغريك في البدايات، لكنها حتماً خادعة وكاشفة، يكثر عملاؤها، ويتنوعون في البضاعة والطرح، لكنك تملّهم وتستاء منهم حين يعبرون إليها بسرعة فائقة ودماغ بلا كوابح من بوابة الدين، محملين بتقلبات مزاجية ومبادئ متأرجحة، وتصفية لما يرونه حسابات مؤجلة لأشخاص أو مؤسسات أو جهات. تعلمنا في سنوات طويلة كانت محصلة الحشو والتلقين والحقن الخفي ما يشبه القاعدة الثابتة في أن الدعاة خط أحمر لا يحق لنا تجاوزه أو مناقشته أو حتى الاعتراض على أفكاره وآرائه، باعتبارها ذات بعد استراتيجي وخيري لا يدرك تفاصيله إلا من أوتي من الحكمة والنباهة ما لم يؤتهما غيره. صدقنا في حوض هذه السنين أن الداعية يولد على المنبر فجأة، ويقود المنابر بشكل مستقل، وله أن يصبح محللاً ومفكراً وعالم دين ومترجماً ومتجولاً وناقداً وكاتباً ورحالة في آن واحد، ما لنا فقط أن نصمت على الغالب، ومن ثم نذكر الله على هذا التنوع المذهل والقدرة البارعة الفظيعة على جمع المستحيلات في ثوب واحد وتحت عباءة واحدة، وقالوا لنا إن الداعية يخاف علينا أكثر من نفسه، فهو يحاول هدايتنا باعتبارنا من أهل الضلال أو قريبين منهم. لم نتعلم أن الداعية ذو طموحات ورغبات وحب للكراسي والأموال والأضواء، فالجماهير في هذه المربعات والمستطيلات تبرر كل هذا الحب المتنوع، وتعلن أن الداعية بشر مثلنا، لكنها لا تراه كذلك حين يخطئ أو يحرض أو يجيـــش أو يشكك، فهي تعيدنا إلى الخط الأحمر الذي علينا أن نقف عــنده، خـــوفاً من لحم الداعية. دعاة الجماهير هو المسلسل الأكثر انتشاراً في الأسواق المجتمعية طوال سنوات الطفرة لمشاريع الصحوة والإيقاظ، وإنما ما زال معنا وفينا من تأسره المظاهر البراقة، ومن يحكم بصلاحنا من عدمه، استناداً على شارب محلوق أو رأس بلا غطاء أو «كاريزما» حديثة أو رأي جديد. معنا وفينا من يقاتل لأجل داعية يحبه، حتى وإن كان مكشوف التوجهات والنيات وينوي بنا ما لا يجرؤ على أن يبوح به في الظاهر. هذا الصنف من الدعاة الذي يضع الجمهور هدفاً أول لألعاب مرسومة وأشياء في النفس يصلح أن يكون ظاهرة تستحق الدرس، وقراءة تأثيرها في تسطيح الوعي وإغلاق منافذ الرؤية.