بعض الناس خفيف الظل والروح، أعطاه الله من المزايا ما لم يعطه غيره.. لنا صديق من هذا النوع.. فهو دائم الحضور البهيج دائم النقاء، دائم الصفاء، دائم الابتسام والتألق.. وهو فوق ذلك صاحب نفس خفيفة كما يقولون.. أي أنه ليس بثقيل الظل، ولا بطيء الإيقاع.. وإنما هو خفيف حاذق ذرب مدرب شهم شديد الفطنة.. كنا إذا خرجنا إلى البر رأيته عجل الحركة، سريعاً إلى العمل، سريعاً إلى تسوية الأشياء وترتيبها، تراه يعمل بخفة وهمة فينجز أشياء لا تدري كيف ينجزها، بل يخيل إليك أنه لا يعمل من شدة إتقانه وخفته!! وكان يتخصص في عمل بعض الأشياء التي يتفرد في إتقانها، ولا يقبل لغيره أن يقترب منها، فهو الذي يتولى ضبط «القهوة» ويجلس عند «المعاميل» جلسة الصقر، له أداؤه الخاص ولونه، وطعمه الخاص وأنت فقط تتمنى أن تنظر إليه وتستمر في متابعة أدائه، وحركته بإعجاب.. بل تتمنى أن تشاركه، لكنك لن تستطيع لأنه لن يقبل، سيقول ابتعد فأنا السيد، أليس سيد القوم خادمهم؟ فتزداد إعجاباً بهذه الشخصية النادرة الفذة، بهذه اللوذعي المتقن، بل المسدد في كل شيء فهو فوق ذلك رام يجيد الرماية فلا يخطئ الهدف وهو يحفظ الحكايات، والأشعار ومع ذلك ليس بالثرثار، ولا المهذار وكأنه تماماً من عناه ذلك الشاعر القديم حين قال: إذا نازع القوم الأحاديث لم يكن عيياً ولا عبئاً على من يقاعد سبحان الله.. هناك شخصيات سُكبت هكذا، وقُدت قداً من معدن الرجولة والنبل وعلوّ الهمة ترى أحدهم مقداماً في كل شيء، طلاعاً، قرماً سميدعاً، تجده دائماً في أول الركب، خفيفاً، وثاباً، ليس كلاً بطناً، بليداً، ثقيل الجسم، إذا أكل أسرف، وإذا نام حسبته من أهل الكهف، فتسمع شخيره عن بعد ميل!! وأظن أن للتربية دوراً مهماً في مثل هذه النشأة فالذي دُرّب وعُلّم على «المراجل» منذ صغره، فإنك سترى أثر التربية جلية عليه وعلى سلوكه وتصرفاته وقديماً قيل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوّده أبوه ومن المؤكد أن للجينات الوراثية دوراً مهماً في هذا، فكثير من الثقلاء ذوي الأنفس الطينية، لابد أن يكونوا من سلالة لها علاقة بالوحل، والطين.. بعكس أولئك الفرسان، النبلاء، ذوي الهمم والنفوس الخفيفة العالية، والذي كأن سلالتهم خلقت من جوهر نفيس. فدرّبوا أبناءكم واغروهم على الخفة، وسرعة الحركة، دربوهم على الخشونة، والصبر، اغرسوا فيهم روح الفروسية، والمغالبة، علموهم النشاط، وخفة النفس، وسرعة الفطنة والنباهة ليكونوا في الطليعة دائماً، معتمدين على أنفسهم، سريعي الاستجابة لدواعي الحياة وخطوبها.. وليأخذوا حذرهم ويحتاطوا من مفاجآت الأحداث، فنحن في زمن لا يعرف المرء في مسائه ما الذي سيحدث له في صباحه!! وقاكم الله شر ما تحذرون.