نعيش اليوم حالة حرب عالمية ثالثة غير معلنة مختلفة من حيث الشكل والجوهر والنتائج والتبعات والأخطار المحدقة بكل إنسان على وجه الأرض. حرب كونية لا ضوابط لها ولا حدود ولا قيود ولا رادع. لا أخلاق فيها ولا دين ولا إنسانية، ولا قوانين دولية وحقوق إنسان، ولا شرائع أممية لحماية المدنيين، وبصورة خاصة الأطفال والنساء ومعاملة الأسرى. حرب بلا استراتيجية ولا تكتيك ولا خطط ولا كَر وفر وانسحاب ودفاع وهجوم. ولا توقيت وترقب واستعداد، ولا وقف إطلاق نار وهدنة ومفاوضات سلام وحلول وسط. حرب لا منتصر فيها ولا مهزوم، فالكل يدفع الأثمان الباهظة من حياته ودمه ودم أطفاله وحاضرهم ومستقبلهم. إنها حرب لا دول كبرى فيها ولا صغرى ولا شعوب متحضرة ولا شعوب متأخرة، ولا تنفع في مواجهتها تكنولوجيا متطورة ولا «أواكس» وطائرات من دون طيار ولا مدفعية وصواريخ ولا حتى قنابل نووية لأن العدو غير مرئي ولا يمكن التنبؤ بمكان وجوده أو موقع أهدافه. حرب لا يستطيع أي إنسان أن يقف فيها على الحياد ولا أن يخفي رأسه في التراب أو أن يدعي أنه بعيد من الخطر. حرب لا يمكن أي شعب أن يعيش بسببها في أمان ويطمئن إلى أنه لن يناله منها نصيب أو تصيبه شظاياها وتحصد أرواح أهله، فكل إنسان معرض للخطر في أية لحظة وأي مكان وزمان ولو اختفى في قعر بيته وحصن نفسه واتبع سياسة «النأي بالنفس»، فقد تطاوله يد الإجرام وهو نائم أو وهو يعمل ولا يعرف من أين ستأتيه الضربة ومتى يحيك له الظلاميون مؤامرة لتفجير سيارة مفخخة أو حزام ناسف يحصد أرواح العشرات ويصيب المئات ويخلف الدمار والأسى والأحزان. حرب لا اعتبار فيها لأي قيمة روحية أو إنسانية ولا احترام لمناسبات دينية أو مقامات مقدسة، كما جرى بالنسبة إلى الاعتداء الآثم على المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة حيث الروضة الشريفة وضريح الرسول الحبيب، صلى الله عليه وسلم، نبي الإنسانية والرحمة، ما يعطي فكرة واضحة عن نيّات المجرمين الإرهابيين وأهدافهم الخبيثة التي لم تأخذ في الحسبان أبعاد هذا العمل المنكر الذي لم نشهد له مثيلاً ولم يتجرأ إنسان على مجرد التفكير بالإقدام على التعرض لهذا الضريح ولا على التفجير في مدينة المحبة والكرم والشرف التي استقبلت رسول السلام بالأهازيج والتكريم ومنحته هو وصحابته الأمان والبيعة لينطلق منها الدين الحنيف وينتشر في العالم بأسره. وما الحوادث الأخيرة في تركيا ومحاولة الانقلاب الفاشلة على نظام الرئيس رجب طيب أردوغان سوى حلقة من مسلسل طويل عرفنا كيف بدأ ولا أحد يعرف متى وأين وكيف سينتهي، لأنه -شئنا أم أبينا- جاء ضمن تداعيات حوادث الربيع العربي الذي تحول إلى جحيم عربي وعالمي كانت تركيا أحد اللاعبين فيه، بخاصة بعد ظهور «داعش» وامتداد نفوذه وانتشار عملياته الإرهابية حول العالم، وكان يمكن لو نجح الانقلاب أن تتغير كل الخرائط وقواعد اللعبة ومجريات الحوادث. كما أن مجزرة نيس أكدت مرة أخرى أخطار الحرب العالمية المنفلتة من كل الضوابط والقيم وأحدثت صدمة كبرى مضاعفة، ليس بسبب فداحة الخسارة في الأرواح فحسب، بل للأسلوب الجديد في العمليات الإرهابية والطريقة الوحشية اللاإنسانية التي نفذها الفاعل في دهس الأبرياء. والمجال لا يتسع هنا لتعداد العمليات الإرهابية، وآخرها في الكرادة العراقية الآمنة في موعد السحور وفي ليلة القدر، ليحولوا الأمان إلى ظلام في تفجير حصد أرواح المئات وخلف الدمار والرعب. ومن قبلها تفجيرات لبنان (وآخرها في بلدة القاع البقاعية الآمنة) وسورية ومصر والسعودية وتونس وغيرها من الدول الإسلامية والأجنبية. أمام هذا الواقع لم يعد من المقبول ولا المعقول السكوت والتفرّج على العالم وهو ينهار، والبشرية -وفي مقدمها الأمة الإسلامية- وهي تتلوى من آلام القتل والدمار وتعيش حالة القلق الدائم والرعب واللاأمان في كل لحظة، ولا بد من عمل دولي جدي بعيداً من التنظير وأحاديث الحوار والقرارات التي لا تنفذ والغارات الاستعراضية والتهديد والوعيد والادعاءات الكاذبة بالانتصارات. ولا بد أيضاً من تنسيق وتعاون على أعلى المستويات لمواجهة هذه الحرب التي تدعي كذباً أن أهدافها دينية ضد «الكفر والكفار» والتي تؤكد كل الدلائل أن العكس هو الصحيح، لأن الإسلام براء من مثل هذه الأعمال والممارسات الوحشية التي شوهت صورته المشرقة وخلفت الكراهية والأحقاد على امتداد العالم، فدفع ثمنها الملايين من أبناء الجاليات الإسلامية والعربية. وهذا يتطلب كشف الزيف وإظهار الحقائق ورفع الستار عن الأسرار والخفايا وتحديد المسؤوليات لمعرفة من حرّض ومن أفسح المجال لهذه المجموعات للتسلل إلى المدن العراقية والسورية وإقامة دويلة «الخلافة المزعومة». فالإرهاب لم يولد من الغيب، ولم يصمد أكثر من عامين لولا وجود أياد خبيثة تساعده وتمده بالدعم، وإلا كيف نفسر احتلاله الموصل وغيرها بكل سهولة، ثم تمدده في المدن الأخرى ليتمركز في الرقة السورية؟ ومن يفسر أرتال السيارات الرباعية الدفع التي تسير في عروض لأعضاء «داعش» في وضح النهار؟ ومن يبرر خروج مئات السيارات التي تحمل مئات المقاتلين من الفلوجة من دون أن تطلق عليها رصاصة واحدة أو أن تقوم طائرة أميركية أو عراقية بقصفها؟ ومن يشرح لنا أسرار تعرض السعودية وتركيا وفرنسا ودول أخرى لعمليات متتالية من دون أن يلمس الإرهابيون شعرة واحدة من إسرائيلي أو إيراني أو أن يتعرضوا لموقع في إيران أو إسرائيل؟ وأين هو الإسرائيلي الذي اعتقل في فرنسا بتهمة تجنيد مقاتلين لـ «داعش» ثم اختفت أخباره وأسدل الستار على قصته؟ وأخيراً، كيف لنا أن نصدق أن تحالفاً دولياً من ٨٠ دولة وعلى رأسها الولايات المتحدة لم يتمكن بعد سنتين من بدء غاراته من تحقيق أي إنجاز عملي، ثم جاءت روسيا لتلقي بثقلها وتكاد تكمل العام من تدخلها من دون أن تقضي على أسس هذه الدويلة؟ إنها أسئلة مشروعة سبق أن طرحت بإلحاح في الصحف والفضائيات والمنتديات من دون أن يجيب عليها أحد. وكنت قد خصصت عشرات المقالات حولها كان أكثرها معبراً عن الواقع ومحذراً مما جرى ويجري ويحمل عنوان «من القاعدة إلى القواعد» (نشر في «الحياة» في ٣٠ حزيران/ يونيو ٢٠١٤)، وأورد بعض نقاطه هنا للتذكير: - يبدو أن ما من أحد، في الشرق والغرب، يريد أن يتعلم من دروس الماضي ويأخذ منها العبر عندما انقلب السحر على الساحر. وحتى الأساطير لم يتعلم من دروسها أحد، ومنها أسطورة وحش فرانكشتاين الشرير. - كان تنظيم «القاعدة» محدود الأهداف، وبعد زلزال ١١ أيلول (سبتمبر) 2001 فتح الرئيس الأميركي جورج بوش الابن أبواب جهنم على العالم والمنطقة بالذات عند احتلال العراق وأفغانستان. فقد تحول «القاعدة» إلى «قواعد» منتشرة لها فروع ومكاتب تمثيلية واخترقتها الاستخبارات الأجنبية وساعدت في انتشارها فوضى الإفتاء وضعف القيادة بعد رحيل أسامة بن لادن. كل هذا قيل، ويقال كل يوم، لكن لا حياة لمن تنادي ولا ردود من كل من يدعي أن بيده الحل والربط، فكل ما يهمه الآن هو جني ثمار هذه الحرب ومغانمها وإقامة قواعده وتقسيم الدول العربية لمصلحة إسرائيل ولفائدة مطامع الدول الكبرى وهي تتجاهل حقيقة أن السحر سينقلب على الساحر عاجلاً أو آجلاً لتدفع الثمن غالياً في حال لم تتدارك الأخطار وترضخ للواقع وتسارع إلى إعلان النفير وحشد كل الإمكانات للقضاء على هذه الآفة ليس بالحسم العسكري وحسب، بل في كل المجالات، وإلا فإن الحرب العالمية الخطيرة ستأكل الأخضر واليابس ولا تبقي ولا تذر من مصالح دول وشعوب وقواعدها وثرواتها واقتصادها وأمنها في كل أنحاء العالم، لا فرق بين كبير وصغير وقريب وبعيد. * كاتب عربي