مبارحة الأمكنة هي التي تزحزح بوصلة الرتابة وتضعها على صهوة الأمل مع آبائه وأمهاته الجميلات، وكم هي سعيدة تلك المرأة التي تستطيع الرحيل إلى عالم جديد لا يتثاءب في وجهها، ولا يصيبه الكساح حينما يلمحها أو يسمعها أو يصغي لوجدها، وتأملوا في حال المسافرات إلى بلاد الفرنجة -التي نلعنها ونعيش على خيراتها- حينما يجدن أناساً يرحبون بأدب جم، ويشرعون الأبواب لكل موهبة تمتلك القدرة على صناعة الفارق، ولو بالصوت. قدر المرأة العربية أن تعيش في مجتمعها على ضفاف الوقت، وأن تجمع أحلام عمرها تحت وسادة مُوشاة بالدموع ما لم تنحت في الصخر، وتفض بكارة النمطية، وترفع عن كاهلها ستائر النسيان والعته المبكر، وقد فعلت هدى الرشيد في كفاحها كل ذلك وما هو أكثر، وحينما استوى صوتها النابض بالحياة على دقات ساعة «بيج بن» لم تعلم نصف نساء البلد أنها الشقيقة وبنت المكان إلا في وقت متأخر جداً، والسبب أن الرجال لم يكونوا يعرفون أيضاً، وقد كانوا هم مصدر المعلومة في ذلك الوقت، وفلترها الذي لا يترك الأشياء للصدفة!! لكي تعرفوا روعة هدى الرشيد ركبوا الصورة التالية من عصر السبعينيات في القرن الماضي: شابة سعودية تقدم نشرة الأخبار من إذاعة لندن قبل ميلاد الحضارة في بلدها الأم، وقبل تمدد سواعد الإسفلت، وفي بدايات عصر الكهرباء والتليفونات وطفرة النفط.. فمن أين خرجت أو بالأحرى تسربت خلسة؟ وكيف وصل بها الحلم إلى ذروة الإعلام الناطق بالعربية في ذلك الزمن المحترم؟! هدى الرشيد لم تكن مجرد مذيعة من أب نجدي وأم حجازية فقط؛ بل كانت أشبه بكتاب ممنوع قذفه جني عابر في صحراء قاحلة، وحينما قرأه الناس أعادوا التفكير في وظيفة الضلع الأعوج، وإلى أين يمكن أن يصل هذا الضلع المُعنى حينما يجد طاقة من النور ومضماراً محايداً للركض؟! من إذاعة/ أكاديمية لندن تعلم العرب جيلاً بعد جيل التطبيق العملي لأجود دروس اللغة العربية دقة وانضباطاً وسلاسة، وعشقوا لغة الهيل والضاد بصوت هدى الرشيد وماجد سرحان وأيوب صديق وبقية العلامات المضيئة الباقية في الأذن والذاكرة إلى اليوم، ولا يزال الحفيون بإذاعة لندن هم أقدر من يحكم على أي مذيع جديد من أول جملة. لا تظنوا أنه من السهولة بمكان على المنتمين إلى بلاد محافظة أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم، وأن يخرجوا إلى الدنيا كي يضعوا بصماتهم بقوة. لكن هدى الرشيد فعلت ذلك بمنتهى الفخر والنجاح، وتحولت فيما بعد إلى ملهمة كبرى لكثيرات من نساء البلد.. فمن يا ترى يفكر اليوم بتكريمها في الجنادرية أو في معرض الكتاب مثلاً؟ لماذا نسيتها صحيفة عكاظ وقد كانت محررة فيها لسنوات؟ وهل يتذكر التليفزيون السعودي أن هدى الرشيد كانت أول مذيعة سعودية تظهر على شاشته؟ ألا تستحق هذه المرأة الجادة بثلاث روايات، وبسيرة أيام رائعة أن تكون مثالاً حياً للطموح النسائي بدرس صغير في كتاب المطالعة؟ أرجوكم اشكروها بأية طريقة ممكنة فهي تستحق. الجمعة القادمة : وجع التجربة