مرة أخرى، يباغت الإرهاب العالم ويثير دهشته وذهوله في قدرته على اتباع أساليب ووسائل ليست في باله أو يمكن التكهن بها، مهما احتاط وتحضر لمواجهتها وإفشالها. إن الإرهاب المتمرس والمتدرب في عدد من الدول المشرقية المبتلية بأزماتها المتعمقة وغير المتجهة إلى الحل قريباً، بات أكثر شراسة وفتكاً ويتلون بألوان وأشكال فوق تصورية أو معرفية لدى الأجهزة الأمنية رغم تحضيراتها وتأهبها بأقصى الدرجات تصدياً له. فالذئاب المنفردة، بما تمثله من مرحلة جديدة للإرهاب غير التقليدي، ظاهرة خطيرة جداً وربما عصية على الاحتواء لما تتطلبه من مجهودات بشرية وتقنية كبيرة جداً، أكثر بكثير من تلك المطلوبة لمواجهة الجماعات والمجموعات. إذ إن وجود عشرة ملايين مواطن أو مقيم من أصول إسلامية على شكل جاليات في الدول الأوروبية، يجعلهم في عين الاتهام رغم براءتهم واقتصار العناصر الإرهابية فيهم على عشرات لا غير، وهذا يصعّب المهمة الأمنية أكثر ويتطلب إمكانات بشرية هائلة. من جهة أخرى، فإن الثقافة الإرهابية - المبنية على الصدمة والرعب- التي يتبعها «داعش» وكل الجماعات المرتبطة به والمتواطئة معه، لإثارة أكبر قدر ممكن من الرعب في المجتمعات المستهدفة، لا تتردد في استخدام ما تيسر لها من الوسائل والأساليب طالما أن الغاية هي إحداث أكبر قدر ممكن من الضحايا، ما يجعل مهمة التصدي لهم أكثر صعوبة. ولذا فإن الخوف بات يسري في كل مكان وفي كل التفاصيل والحيثيات اليومية، إلى درجة أصبح الهاجس الأمني يرافق الإنسان مع كل خطوة يخطوها، بحيث لم تعد الناس تعلم أنها ستصل الى أعمالها أو ستعود منها. إن الإرهاب العالمي العابر للقارات والبحار تهديد لا تمكن معالجته بعمليات القصف والقتال في الدول المبتلية به شرقاً، خصوصاً أنه أصبح يقود حرب وجود بعد حصاره وتضييق الخناق عليه في سورية والعراق، الأمر الذي يتطلب معالجة حقيقية وجدية لأسبابه ودواعيه وليس فقط التصدي لنتائجه ومفرزاته. ويجب بادئ ذي بدء أن تتوقف الدول الكبرى السيادية والإقليمية المتورطة في هذه الأزمات عن الدفع بالمصالح والأجندات الخاصة قبل المصلحة الإنسانية الجمعية المتمثلة في الأمن والطمأنينة أساساً، وذلك عبر الكف عن الاستثمار في هذه الأزمات في سورية والعراق وليبيا وأفغانستان والمتحولة إلى ساحات لاختبار الأسلحة الحديثة أو التخلص من المخزون المتكدس. يقول المثل الكردي الشعبي «المياه الراكدة في الأحواض تُفسد». وعليه فإن الأزمات المفتوحة على كل الاحتمالات والتي طال أمدها قياساً بالتصورات المرافقة لبدايتها، من دون أن تلوح في الأفق حلول أو نهايات ممكنة لها، هي التي تُفسد الإنسانية بآفة الآفات العصية هذه. رغم ذلك، لم تتحول المجتمعات المعايشة للحروب والاقتتال، في سورية والعراق على وجه الخصوص، إلى بيئات مناسبة بالمطلق لنمو إرهاب محلي- ما خلا القليل منها- وإنما تحولت إلى قطع جبن جاذبة لكل متمرد فاسد ومجرم قاتل باحث عن هوية ضائعة في المجتمعية المدنية ليثبت ذاته فيها. ولهذا تحولت البقع المتأزمة مصائد ومحارق للإرهابيين وخطوطاً متقدمة لتصفية الحسابات الدولية وتحقيق مصالحها على حساب شعوب تلك الدول. وبالتأكيد وكما يقال «صانع السم ذائقه»، فإن الجميع سيتذوق من هذا الإرهاب ما لم يستفق الجميع قبل فوات الأون. إن المسؤولية جمعية كما النتائج وتتطلب تضافراً جدياً للجهود والإمكانات وتسخيرها للتصدي للإرهاب الفاتك بالإنسانية وحضارتها، وهذا يفرض بلا شك مراجعة السياسات والمقاربات الدولية للأزمات المتعمقة في الشرق والسعي بجدية لإيجاد حلول لها. فالاكتفاء بمواجهة ارتدادات الإرهاب أو التباحث حول تغطية جذور المشكلة بتكحيل العيون ببعض الحلول السطحية والظالمة بحق البعض، ربما يخمدها لبعض الوقت، لكنها بالتأكيد ستعيد انفجارها مجدداً وبصورة أكثر خطورة. إن هجوم مدينة نيس الفرنسية يثير التساؤلات حول إمكان ردع الإرهاب ويضع سياسة باريس على المحك، بعد أن فشلت كل محاولاتها وتدابيرها ووقعت الكارثة التي لم تكن لا في حسبان المحتفلين ولا في توقعات الأجهزة الأمنية المتأهبة. إن الحكومة الفرنسية، ومن خلفها القيادات العالمية المعنية، باتت اليوم أمام تحدٍ كبير ومسؤوليات لن تتكفل بها الاستراتيجيات الحالية لمحاربة الإرهاب، ولا حتى إرسال حاملة الطائرات الفرنسية شارل ديغول إلى شرق المتوسط أو التعهد بتكثيف الضربات الجوية ضد «داعش» و «النصرة». فما لم تُعِد الدول المعنية حساباتها وتتكاتف للقضاء على الإرهاب أولاً عبر نزع فتيل الاقتتال والقتل في الدول المتأزمة وتوفير أجواء المشاركة العادلة أمام المكونات المجتمعية في صناعة القرار السياسي وإدارة بلدانها لن تنتفي أسباب انتشار الإرهاب وتجف البيئات الحاضنة له، تمهيداً لإعادة تلميع صورة الغرب المشوهة كثيراً في أذهان النسبة الكبرى من الشعوب الشرقية والإسلامية.