بمقياس الضحالة، تقول الأرقام إن القارئ العربي مهموم، في تصفحه اليومي للإنترنت، بثلاث قضايا: الجنس والرياضة والطبخ. وبمقياس الجدية، تبدو النزعة إلى هذا الثلاثي منطقية، في ظل السهام التي يتلقاها ذلك المسكين في معيشته طيلة يومه. فَلِمَ نبخل عليه بساعة تَجْلِي نفسه مما علق بها في ساعات النهار؟ بمقياس الضحالة -مرة ثانية- يميل مشاهدو التلفزيون العرب، إلى الكرة والمسلسلات والأفلام. وبمقياس الجدية، لهذه النزعة أيضاً ما يبررها في ظل ما تضخه القنوات التلفزيونية، على رأس كل ساعة، من أخبار تنضح بالدم والقتل والدمار. فَلِمَ نستكثر عليه ساعة يُرفّه فيها عن نفسه وتنسيه آلامه التي تصب عليها نشرات الأخبار اليومية مزيداً من الملح؟ في معارض الكتب العربية، يتصدر البيع الثلاثي الشهير: كتب الدين والطبخ والجنس. ثم نتساءل: لماذا هذا التوجه؟ بل لماذا هذا التناقص في الشغف بين الدين والجنس؟ تجيب عن ذلك أرقام الأمية التي لا تزال مستفحلة في المنطقة العربية. ففي أحدث تقرير لـ «اليونسكو»، واحد من بين كل خمسة من البالغين أمي. 48 في المئة من سكان موريتانيا –بلد المليون شاعر- أميون. وما دخل التوجه إلى قراءة كتب بعينها بمن لا يقرأ ولا يكتب أصلاً؟ ألا ترى في ذلك إسقاطاً غير عادل؟ هذا غير صحيح، وقد عقدنا هذه المقارنة لسببين: الأول هو أن من خرج من أمّيته للتو يبدو وكأنه يريد إشباع غرائز لم تكن مشبعة إبان جهله، وما انكبابه على كتب الطبخ والجنس إلا امتداد لإكمال هذا النقص، لكن بوسيط آخر اكتشفه حديثاً هو الكتاب. كما أنه يمكن التساؤل: ماذا ترجو من قارئ أن يطالع، إن كان محاطاً بكل هذا الكم من الأميين؟ الثاني هو أن الأمية لم تعد مقتصرة على من لا يقرأ ولا يكتب، بل هي متأصلة في صفوف القراء أنفسهم. نعم، هناك أمية في صفوف القراء العرب، يمكن من خلالها فهم الركض وراء كل ما هو مسلٍ وترفيهي وجنسي. وإلا ماذا نسمي العزوف المقصود عن فروع المعرفة الأخرى التي لا حدود لها، والتي لا تنتهي بكل تأكيد عند الجنس والطبخ والدين؟ ولا يشترط بالمعرفة أن تكون سياسة أو اقتصاد أو فيزيائية جادة أو كيماوية جافة. لكنها بكل تأكيد تمتد لتتجاوز ثلاثي الجنس والطبخ والدين. وكي لا يفهم أحد أننا نلمز هنا جانباً من الدين، أو مطالعة كتبه، فإن تأكيدنا هنا ينصب على ظاهرة المطالعة التي بات الدين محورها، على رغم أن الدين نفسه يقول لكل من يقرأ كتبه بأن يوسع مداركه بالمعرفة من أجل هدف سامٍ هو إعمار هذه الأرض. فكيف يمكن إعمار الأرض من دون معرفة وتبحّر في عوالم أخرى يعجّ بها الكون. وفي مستوى آخر من الأمية، يمكن القول إن القارئ العربي يعاني الأمية الإعلامية. وهذا مفهوم واسع يعني، في ما يعنيه، أننا لم نتتلمذ وفق أسس تربوية تضع لنا خطوطاً عريضة لكيفية التعامل مع وسائل الإعلام التي ستشكل لاحقاً جزءاً مهماً من حياتنا وتكويننا وشخصياتنا. فلم نتعلم في مدارسنا التربية الصحافية التي تمكننا من مفاتيح قراءة الأخبار بوعي متفتح، ولا سبل التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كيف نختار وسائلنا التي نستقي منها المعلومات. وفي ضوء هذا الفهم، يمكن تفسير تنقل القارئ العربي بين الوسائل كلها بحثاً عما يشبع غرائزه، لا ما ينمي فهمه ويطور ثقافته ويحسن معرفته بما يجري حوله. نعرف أن الإعلام إجمالاً، خصوصاً الإلكتروني منه، بما فيه وسائل التواصل الاجتماعي، يميل إلى «تتفيه» الأخبار، ويجعل منها ما يشبه النكتة، أو يبحث جاهداً في الخبر السياسي الجاد عما يصلح أن يكون منطلقاً لخبر خفيف. فبينما تريد وسائل إعلامية أن «تبيع» الزبون خبراً مقروءاً و «لا يسد النفس»، تنحرف يدها وهي تكتب الخبر ليكون النص «سبايسي» إلى الحد الذي يسترعي انتباه المتلقي. وهذه لعبة يحترفها الإعلام، وله فيها ما يبرر هذا الفعل. لكن، ما أدوات القارئ الدفاعية في مواجهة مثل هكذا أخبار؟ مرة أخرى، نعود إلى أهمية التربية الصحافية، التي لو كانت مغروسة فينا منذ الصغر، لما كنا ضحايا إعلام على هذه الشاكلة. قد تقول إن المشكلة إذاً هي في وسائل الإعلام التي تكتب وليس القارئ الذي يستهلك؟ جزء من هذا الطرح صحيح، وهناك بالفعل وسائل إعلام، وما أكثرها، تميل إلى اللون الأصفر (الإثارة). في المقابل، تقول الأرقام أنه حتى في وسائل الإعلام الجادة، تجد الأخبار الترفيهية (طبخ وكورة وفن) رواجاً أكبر لدى المتصفحين. انظر إلى قائمة الأخبار الأكثر قراءة في أي موقع إلكتروني تعتبره جاداً وسترى بنفسك نوعية الأخبار التي تطفو على سطح القراءة. في مقابل هذا الطرح، هناك من يرى أن الإعلام يتعمد أن يعطي القارئ ما يريده، انطلاقاً من قاعدة أن وسائل الإعلام هي التي تشتغل عند القارئ، وليس القارئ هو مَن يشتغل لدى وسائل الإعلام. ولأن كل الوسائل تريد المحافظة على متابعيها بل وتضخيم أعدادهم، لذلك لا تبخل عليهم بما يشفي غليلهم من محتوى، بغض النظر عن مضمونه. (تريد كورة؟ ولا يهمك. تريد إثارة؟ حاضرين. تريد مسلسلات؟ سنغرقك). وبينما تقوم بعض وسائل الإعلام بهذه المهمة، من خلال إرضاع المتلقي الحليب الذي يحبه، تنحرف بلا شك عن مهمتها الأساسية في التوعية الاجتماعية والتنمية الثقافية، اللهم إن اعتبرت هذه المنافذ ما تبثه من إثارة تنمية وثقافة من منظورها هي. وفي منتصف الطريق يلحظ المراقب تواطوءاً خفياً بين القارئ وبعض الوسائل الإعلامية في شأن ما يطلبه الأول وتنتجه الثانية من مضامين. وبينما تتآمر الوسيلة على القارئ، لا يجد الأخير في ذلك ضرراً. وبينما يتسلى كل منهما بالآخر، يعتبر كل طرف أنه سجل هدفاً في مرمى الآخر. ويبدو أن الطرفين مرتاحان للعب في هذه المنطقة التي يمكث فيها كل منهما ساكتاً وباسماً في وجه الثاني. لكن، هل هذا القارئ أو المشاهد هو الذي تريد أن تُشكل عقله وتكّون وعيه وسائل الإعلام؟ وهل هذا ما تتمناه الحكومات في المنطقة العربية؟ السؤال الأهم، هل القارئ نفسه يريد أن يكون على هذا المستوى «السطحي» من المعرفة، أم يطمح الى ما هو أكثر عمقاً معرفياً، لكنه لا يجد؟ الواقع يقول إن الحكومات، وعبر أدواتها من وسائل إعلام، لا تزال كلها تخضع لإمرتها، تريد -على الأرجح- قارئاً، وبالتحديد مشاهداً من هذا النوع. اتفاقات بث دوريات كرة القدم الإقليمية والأوروبية والعالمية التي غزت الشاشات العربية في السنوات الأخيرة -وكلها تمر بمنافذ حكومية- شاهد على ذلك. قد تقول: أنت تقسو هكذا على القارئ وتحمّله أكبر مما يمكن أن تحتمل طاقته؟ وهذا ليس صحيحاً مطلقاً، ولا خطأ مطلقاً. فالمتلقي العربي -قارئاً كان أم مشاهداً أم مستمعاً- ليس مظلوماً على الدوام. إذ إنه لم ينتفض يوماً في وجه وسيلة إعلامية ضللته، أو يعترض على منفذ صحافي كذب عليه. كما أنه لم يُعرف في أدبيات القارئ العربي أن قاطع شراء صحيفة أو متابعة تلفزيون أو الاستماع إلى إذاعة لأن أحداً منها دلس عليه في المعلومات. والحال كذلك، فإن جنوح غالبية القراء العرب إلى ما خف وزنه المعرفي في عالم الأخبار لا ينم عن حال صحية، بل نرى فيه ظاهرة مرضية. والغريب أن هذا المرض آخذ في الاستفحال. وإن كان لا يعيب الشخص عدم قدرته على التخلص من المرض، لا سيما إذا كان مزمناً، فما عليه إلا التعايش معه. لكن عليه أن يدرك أن جسده الذي هو وعاء عقله سيبقى معلولاً إلى أن يلقى الله.