الإبداع لغة الإنسان العليا، تتأتى من خلال الموهبة، فلا يملكها سوى الممسوس بلفحة الإشراق، التي ينضح من خلالها التعبير عن مكنون الحياة، وما يعتريها من شذرات إنسانية ولعل أكثر الشذرات تلك المنثورة على بلورة الحزن السرمدية التي جاءت مع الإنسان لترحل معه، فتلازمه منذ البداية وحتى النهاية، فمنذ أن كان الإنسان كانت المتناقضات، الخير والشر، الفرح والحزن، كل ذلك جعل من الحزن موقد الإبداع. يمثل الشعر تاريخاً خاصاً لمشاعر الحزن والألم، حتى أننا نجد تياراً بعينه يستلهم الألم والحزن موقداً لإبداعه، فالتيار الرومانسي في الشعر هو نموذج كامل لتلك العقلية الشعرية، حتى صار الشعر عندهم علاجاً أو بلسماً يداوي به الشاعر جراحه، على حد تعبير إبراهيم ناجي، بل نرى الشاعر في حالات يتغنى به في دواوينه، ويطلب ممن حوله مشاركته في ذلك، حتى يردد الشابي بيتاً يقول فيه: (غني يا صاح، أنات الجحيم.)... واسقني الألم.. لعل المعاناة التي يلاقيها الشاعر كغيره من أبناء وطنه وجلدته، والظروف التي يمر بها مجتمعنا العربي على سبيل المثال وتلك الفترة خاصة المليئة بالوجع الإنساني، وتلك الغربة التي غطت آفاق الحياة، وجعلت من الإنسان ضيفاً ثقيلاً على الطبيعة يخرب معالهما كما يخرب إنسانيته، مما جعل الشاعر يتطرق إلى كلمات يرثي بها حاله ويرثي بها أوجاعه ويسلي على المتلقي حتى يحدث من أمره يسر. وجعلته يعبر وبصدق عن تلك الحالة البائسة الحزينة التي يمر بها المجتمع الحداثي، ولا شك أن تلك الحداثة التي أورثت الإنسان حالة من الكآبة والغربة والألم جعلته يتوحد مع البناء الروحاني للعمل الفني الذي هو في الأساس قائم على قوائم الغربة والحزن، وهذا التوحد جاء نتيجة التنفيس عن رغبات يمر بها الإنسان/المتلقي، ويشعر أن ما يقرؤه من قصيدة، هو جزء أصيل داخله، استطاع الشاعر أن يرسمه بالكلمات، وكأنه ينحت كل كلمة من جسد المتلقي البائس، ونظراً لأن معظم الشعراء والمبدعين أبناء المعاناة الحقيقة، أبناء الفقر والغربة حاملي الحزن كما يقول الشاعر محمود درويش: (إنا حملنا الحزن أعواماً وما طلع الصباح والحزن نار تخمد الأيام شهوتنا). وحتى إذا جاء الصباح، فإن الحزن لن يهدأ، والداء لن يهدأ، كما يقول الشاعر بدر شاكر السياب: (ولا يهدأ الداء عند الصباح). ويلاحظ أن المتلقي ربما لا يفهم ما يقال له من شعر للإبهام الذي يعتري القصيدة، خاصة الحداثية منها، إلا أن المتلقي يستمتع بإيقاع الحزن الساري داخل القصيدة، وتلك المرثية الذائبة داخل حنايا البيت الشعري. ونظراً لأن الحزن حالة من الاحتياج لا يستطيع الفنان تحمله، ويسعى إلى امتلاكه وإذا لم يملكه راح يرثيه، ويحدث حالة من التأثير والتأثر بين المبدع والمتلقي، فينتج التفريغ الانفعالي الذي يحدثه الفنان أولاً لينجي ذاته من الوجع، وليذوب مع ولع المتلقي بالعمل الفني، ويرى مدى نجاح عمله عنده، والتنفيس عن رغبات المتلقي في حد ذاته. سيظل الحزن والمعاناة جزءاً باقياً بقاء الفن والإبداع، لأنه لو انتهى الحزن وانتهت المعاناة انتهى الفن والإبداع، وهي يوتوبيا حلم بها بعض المتطرفين في يوم من الأيام.