لا تتعجب فرجل القش أو فزاعة الطيور رغم هشاشته يفعل المفاعيل في نقاشاتنا دون أن نعي، ويجعلنا نخرج منها بخسائر مادية ومعنوية لكلا طرفي النقاش، أو على الأقل خالي الوفاض في أحسن الأحوال. تخيل معي هذا المشهد؛ يقرر الطرف الأول رأيه: الحرب على العراق كانت قراراً خاطئاً، يرد عليه مُناقشه: هل يعقل أن تكون معارضاً للحرية! هنا تظهر إحدى أهم المغالطات المنطقية التي تؤثر كثيراً على أحكامنا، وبل وتمنعنا من إدراك وفهم وتقبل الآراء والخيارات الأخرى فقط لأننا استسلمنا لمغالطة تحريف موضوع النقاش، ومحاولة التشويش على الفكرة الأساسية بقضية أخرى، ذلك أن الطرف الثاني يٌسقط في يده لأنه عاجزٌ عن مقارعة الحجة بالحجة، فيحاول أن يتجنب نقاش صلب محور القضية بالهروب إلى نقاط أخرى، عبر إساءة فهم أو تحريف موقف الخصم لشيء آخر يسهل دحضه، أو استعراض كلماته خارج سياقها، أو انتقاء ما يحوّر نوايا الخصم، أو حتى النيل من شخصية المحاور ومحاولة ربط ذلك بقضية النقاش كما يحدث لدينا كثيراً في القضايا المجتمعية كقيادة المرأة للسيارة أو إقفال المحال التجارية أثناء الصلاة، إذ يترك الموضوع الأساسي جانباً وتناقش خلفيات وأهداف المحاورين أولاً! ناهيك عن الخوض في مسائل جانبية كازدحام المرور أو سوء الطرقات. هذه الحجج الواهية هي سبب تسمية المغالطة المنطقية للتحريف برجل القش فزاعة الطيور، الذي يصنعه الطرف الثاني من سوء فهمه أو نسبه حجة غير صحيحة أو مجتزئة من سياقها، ثم يهاجمها بدلاً من الحجة الأساسية، وبالطبع رجل القش هذا يبدو رجلاً شامخاً من بعيد، لكنه هشٌ وضعيف، ومن السهل الإطاحة به وتدميره تماماً، وهو ما يمكن أن تلاحظه في مجمل نقاشاتنا عبر منصات الاتصال الاجتماعي، حينما يطرح أحدهم قضية ما فيتحور أو يتشوّه النقاش تلقائياً لشيء آخر، بينما النتيجة النهائية تطبق على الأصل، كمن يطرح ضرورة زيادة ميزانية التعليم والتدريب، فيفاجأ بمن يطعن في وطنيته، لأنه وبحسب الطرف الآخر يرغب تعريض الوطن للخطر بواسطة تقليص ميزانية الجيش وتحويلها إلى التعليم، رغم أن صاحب الفكرة الأساسية لم يقل ذلك لا من قريب ولا من بعيد، لكن هذا الطرح يساعد على تحريف حجة صاحب الفكرة الأساسية، وتشويهها أمام المتلقي وبالتالي تمسى أمام المعارض فرصة لدحض الحجة الأصلية بواسطة الهجوم على الحجة البديلة رجل القش وبالتالي كسب المعركة أمام الجمهور. تذكّر كم مرة تجاوزت أفكاراً رائعة وأساليب حياة مميزة فقط لأنك أرهفت سمعك لما ليس له علاقة بما تناقشه، وأهدرت طاقتك في حروب جانبية لإثبات ما تهواه، وفرّطت في فرصة نقاش منهجي ومحدد لتتلذذ –بقصدٍ أو دون قصد- بالمكسب الظاهري والفوز بالنقاش وليس الوصول إلى النتيجة العقلانية الصحيحة، التي لن تصلها أبداً مالم تمنع نفسك من ابتداع رجل القش أو الالتفات لمن يحترفون استحضاره دوماً.