كنتُ وأحد الأصدقاء نتابع برنامجا ثقافيا على فضائية عربية. كان الضيف مثقفا كبيرا. لم يعكر صفو اللقاء سوى مداخلات المحاور الذي لا يحسن التوقيت. بعد نهاية اللقاء التفت إلي صاحبي ليقول: «هذا أستاذ بحق»! أغراني تعليقه للتفكير في مسألة «الأستاذية» بعد أن أصبح لقب «أستاذ» مَشَاعا. تستطيع اليوم أن تضيف هذا اللقب إلى اسم «هَبَنَّقة» وهو عميد الحمقى بشهادة ابن الجوزي. غير أن هَبَنَّقة الماضي لا يحمل مؤهلا أكاديميا. نعم تستطيع أن تمنحه اللقب دون أن يرفّ لك جفن. بل إن «هَبَنَّقة» نفسه لا يقبل أن تذكر اسمه مجردا من اللقب. ولم لا، وهو حائز على ما يمنحه هذا الحق؟ غير أن «الأستاذية» ليست درجة أكاديمية وحسب، بل لقب يمنح لمن يستحقه لاعتبارات كثيرة. ولو استعرضت كل تلك الاعتبارات لتجردت أسماء كثيرة من ألقابها. ونظرا لضيق المساحة فقد يكون من المناسب التركيز على اعتبارٍ أو ميزةٍ واحدة من مزايا «الأستاذية» هي «فن الإصغاء ومشتقاته» وهو الفن الذي لم يتقنه المذيع المحاور أثناء ذلك اللقاء التلفزيوني. هل شاهدت يوما شخصا ينتهك حرمة الطابور، ويتجاهل ذلك الجدار البشري الذي ينتظر دوره فيقفز إلى المقدمة؟ هنالك وجه شبه بين هذا التصرف ومقاطعة المحاور واختطاف الكلام من فمه، فهو بمقاييس الأولين منافٍ لصفة الظُرْف، وبالمقاييس الراهنة منافٍ لصفة التحضر. الإصغاء، إذن، هو ما يجعل التخاطب مع الأساتذة الكبار ممتعا ومفيدا. يتحدث أحدهم فيتدفق نهرٌ من الأفكار والمعلومات يروي الظامئ إلى المعرفة. لكن التواصل الفكري لا يكتمل ما لم يتحقق المبدأ الذي تلخصه العبارة القائلة: «اعطني أُذُناً أعطِكَ صوتاً» وهو أمر عصيٌّ على أي مصاب بـ «متلازمة الجَهْبذية» أو «داء الأوحدية» أو «وهم الاكتفاء الذاتي»، لذلك يخرج هَبَنَّقة من هذا البستان المعرفي جائعا ضامرا كما كان قبل الدخول، شأنه شأن الثعلب في الحكاية المعروفة. «إذا كنت قد نسيت الحكاية، فابحث عنها في (جوجل) تحت عنوان: الثعلب والبستان». لا يحتاج الأستاذ إلى استعراض مهاراته البلاغية، أو الكشف عن مخزونه المعرفي. كما يدرك أن متعة الإصغاء تفوق متعة الكلام، وأن الإصغاء، وليس الكلام، هو ما ينمي رصيدنا الثقافي. وهي الحالة الوحيدة التي يصبح فيها «الكلام من فضة والسكوت من ذهب» ليس بالمعنى المتعارف عليه، والذي عارضه ميخائيل نعيمة بقوله: «إن يكن الصمت من ذهب، فما أغنى الخرسان»! لا يتعالى الأستاذ على حالة «التلمذة» فهو تلميذ دائم للحياة. والتلميذ أقل كلاما، وأكثر أسئلة. وهو فوق ذلك صبور لا يخطف العبارة من فم محدثه. ولربما منحه وقتا إضافيا لاستعادة بعض الأفكار الشاردة. وحين يتحدث أو يُخاطب فإنه ينظر إلى محدثه مباشرة ليشعره بأن ما يقوله موضع اهتمام. وفي المقابل، قد ينشغل هَبَنَّقة عن محدثه إما بكتابة رسالة هاتفية، أو بتصفح موقع ما على الهاتف المحمول. فإذا لم يكن مشغولا بشيء من هذا القبيل، فقد ينشغل عما تقول بإعداد رد على كلامك الذي استمع إلى نُتَفٍ منه بِرُبع أُذُن. أكثر ما يزعج الأستاذ حديثٌ مُبعْثَر، يقفز من فكرة إلى أخرى لا تربطها بالأولى صلة. أكثر ما يزعجه ذلك السجال المراوغ الذي لا يخدم الحقيقة، ويحول دون فهم الواقع، وقراءته قراءة صحيحة. في حين يرى هَبَنَّقة في ذلك المنهج السجالي الذي يلوي أعناق الحقائق وسيلة للبرهنة على أن العَنْزَ قد «تطير» أحيانا. ولكل أستاذ طريقته.