ليست كثيرة هي أفلام المخرج الفلسطيني ايليا سليمان، ولا تكاد تتجاوز عدد أصابع اليد، إلا أنها تمثل خروجاً عن مألوف السينما الفلسطينية، ليجنح فيها سليمان نحو الواقعية والتجديد. ورغم أنه واقعي لا يمكن اختصار الألم الفلسطيني الممتد لأكثر من 60 عاماً، إلا أن ثلاثية سليمان التي بدأها في سجل اختفاء (1996) وتبعها في يد إلهية (2002) ثم الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب (2009) كانت كفيلة بأن تقدم هذا الاختصار، وأن تنطق بالأمل رغم اتساع مساحة الصمت فيها، ليؤسس سليمان من خلالها، وبحسب إجماع النقاد، لنقلة نوعية في السينما العربية من حيث طريقة السرد والأسلوب واللغة السينمائية التي يعتمدها سليمان، الذي يمكنك في أفلامه من قراءة تفاصيل القضية الفلسطينية، والاطلاع على مسيرتها، بلغة لا تجنح إلى الخطابية الثورية التي اعتمدتها السينما الفلسطينية في سنوات السبعينيات وما قبلها. كوميديا سوداء ما يميز أفلام سليمان، الذي لمع نجمه عالمياً قبل أن يبرز فلسطينياً وعربياً، ليتحول، بسرعة البرق، إلى أحد رواد ومجددي السينما الفلسطينية، أنها تدور في قوالب الكوميديا السوداء.. وحملها نقداً لاذعاً وتصويراً لمعظم تفاصيل الناس، ما يشير إلى أن السينما بالنسبة لسليمان أصبحت مكاناً للبحث عن الذات وفضاءً يطلق فيه أسئلته الوجودية التي تدور حول نفسه، وكيف أصبح وكيف مر الزمان، ليمنح ذلك لأفلامه سبباً لأن تشق طريقها نحو منصات التتويج في معظم المهرجانات الدولية. لقد كان سليمان ولا يزال واحداً من أبرز الذين أثاروا الجدل في العالم العربي، لطبيعة ما قدمه من أفلام حملت أسلوبه الخاص، فهو يعترف بأن أفلامه لا علاقة لها بأفلام الهوية والحدود، ويعتبر أن السينما هي المكان الوحيد الذي يشعره بالقدرة على خلق الأمل الذي يساعده على تغيير الوضع العام، وذلك مرده طبيعة الحياة التي نشأ عليها متنقلاً فيها بين مدينته الناصرة وبين منافيه المتعددة مثل لندن وفرنسا ونيويورك التي قضى فيها أكثر من 14 عاماً، وكون فيها ثقافته السينمائية التي استمدها من قراءاته في الفلسفة والأدب والسينما، وتأثر خلالها بمخرجين عالميين. وجد فيهم قاسماً مشتركاً مع تجربته الشخصية. وعلى قلة أعماله، إلا أن لكل واحد منها نكهته الخاصة، التي برزت في فيلمه الأول مقدمة لنهاية جدال (1990) تلاها في فيلم تكريم بالقتل (1991) والذي انتقد فيه حرب الخليج الثانية، ثم سجل اختفاء (1996) وبعدها يد إلهية (2002) وكذلك الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب (2009). واقع السلام لكل فيلم من أعمال سليمان حكايته، وإسقاطاته على الواقع الفلسطيني، وكل واحد منها حمل تغييراً واضحاً في الأسلوب والتعاطي مع القضية، بدءاً من سجل اختفاء الفائز بالجائزة الأولى بمهرجان فينيسيا السينمائي. والذي صار فيما بعد جزءاً من ثلاثية سينمائية، أدرجها النقاد تحت إطار أفلام وطن ما بعد أوسلو، لكونها تستعرض الحياة الفلسطينية وتقلباتها بعد توقيع اتفاقيات أوسلو. ففيلم سجل اختفاء عبارة عن يوميات مصورة لمخرج فلسطيني، عائد إلى فلسطين ما بعد السلام من أجل إنجاز فيلم عنها. ليقدم سليمان فيه رصداً لرتابة الحياة في مدينتي القدس والناصرة، وطبيعة الفراغ الذي عاشه الناس خلال تلك المرحلة، فهم يتعلقون بين الآمال بالمقاومة والتحرير، وبين واقع السلام الذي فرض نفسه عليهم. الكثير من النقاد رأى في هذا الفيلم تحديداً، نقلة نوعية للسينما العربية، على مستويات السرد والأسلوب واللغة السينمائية، لاسيما وأنه يرصد مظاهر اختفاء الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 من خلال مدينتي الناصرة والقدس. اتساع مساحة الصمت وتفوقه على مساحة الحوار، بدا أحد أبرز التقنيات التي اعتمدها سليمان في سجل اختفاء وكررها في أفلامه اللاحقة، فهو يستعيض عن الحوار بمشاهد ذات رمزية عالية ودلالات يمكن تفسيرها على أكثر من اتجاه.. ومن خلال سجل اختفاء يحاول المخرج التعبير عن طبيعة المرحلة السياسية والاجتماعية التي مرت بها القضية الفلسطينية، من خلال قسمين، الأول يرصد فيه وقائع الحياة اليومية لأسرته ومدينته (الناصرة) بشيء من الحنان وكثير من الحزن، فيما يرصد في الثاني التغييرات السياسية. وفي الحالتين كانت النتيجة واحدة. لذا ففكرة سجل اختفاء كانت كفيلة آنذاك أن تثير جدلاً حاداً بين النقاد والجمهور الذي وقف على حدين أحدهما رافض لما قدمه سليمان، وآخر مؤيد له، ولكن ما أن هدأ بركان الجدل حتى اتخذ الفيلم ومخرجه مكانتهما في السينما الفلسطينية، وفي السينما التجديدية في العالم. فن جديد وعلى قدر أهمية تجربة سليمان في سجل اختفاء إلا أن تجربته في يد إلهية لم تأت أقل وهجاً، فمن خلالها تعرف العالم وللمرة الأولى، على سينما فلسطينية جديدة قادرة على تقديم فن جديد، يختلف عما قدمته الأفلام الفلسطينية السابقة. وفي الوقت الذي اعتبر النقاد يد إلهية مكملاً لما قدمه سليمان في سجل اختفاء فقد فجر الفيلم بركاناً من الجدل، بدأ مع تكريمه بجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان كان السينمائي، تلاها منعه من الترشح لجائزة الأوسكار على اعتبار أنه يأتي من بلد لا يوجد اعتراف به. في يد إلهية يواصل سليمان تتبعه لطبيعة الحياة اليومية في فلسطين، من خلال قصة حب تجمع شاباً من القدس، وفتاة من رام الله، تجري وقائعها في سياق تظل الحدود والحواجز تشكل فيه مانعا للقاء العاشقين. ومع أن القصة تبدو للوهلة الأولى نمطية جداً وتدور في قالب متعارف عليه سينمائياً. إلا أن مشاهد الفيلم التالية تثبت تفرد القصة وقدرتها على الخروج عن النمطية، وهو ما يبرز في اهتمام سليمان بالصورة الصامتة والكاميرا الثابتة التي بالكاد تتحرك، وبسماحه للسيناريو لأن يتفرع نحو قصص أخرى، قد لا تمت إلى قصة الحب الرئيسية. لقد منحت هذه التقنية المخرج لأن يقدم فيلمه بقالب الكوميديا السوداء، التي ساعدت في بناء الحبكة التي حملت بين طياتها حزمة من الحب والألم، فالمشاهد تتراوح بين حب الفلسطيني للحياة والمكان، والألم الذي يتجرعه يومياً بسبب الاحتلال وممارساته، وعدم قدرته على التنقل بسلاسة بين مناطقه ومدنه، ليقدم سليمان في الفيلم دليلاً على أن كل شيء بات محرماً على الفلسطيني، حتى الحب والعشق. مشاهد موجزة ميزة يد إلهية تكمن في طبيعة الكوميديا السوداء التي برع سليمان بتقديمها بصورة مشبعة بالرموز التي تحمل إشارات على الألم والمعاناة.. كما في مشهد الحاجز الذي يجبر سليمان على استخدام بالون يحمل صورة الراحل ياسر عرفات، الذي يترك العنان له ليطوف سماء مدينة القدس، ليلهو به جنود الاحتلال المتواجدون على الحاجز ليتمكن مع عشيقته من المرور من دون الاضطرار لإبراز الأوراق التي تسمح له بدخول المدينة المقدسة. فالفيلم اعتمد على المشاهد والوقائع أكثر من الحوار، واستند فيه المخرج إلى مشاهد موجزة تحمل بين تفاصيلها جرعة مكثفة، لتشكل في مجموعها صورة متكاملة عن الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني. بينما نجد سليمان يدخلنا من خلال مشاهد الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب، إلى عالمه الخاص، ليبدو الفيلم على صلة وشيجة بسيرته الشخصية والعائلية، ففيه يؤرخ لمقاومة الفلسطيني لمشروع تأسيس إسرائيل قبل نكبة 1948، ليستعرض على إثر ذلك التحولات التي شهدتها حياة الفلسطينيين الذين لا يزالون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. الفيلم يستلهم اسمه من القوانين الإسرائيلية التي صنفت الفلسطينيين الباقين، الذين لم يكن معظمهم مواطنين أول الأمر، والذين سلبت أراضيهم بحجة الغياب. لذا ففي الفيلم تظهر متلازمة المقاومة والتنازل، عارضًا صورة جديدة تبين التنازلات التي أجبر الفلسطيني على تقديمها نتيجة بقائه في أرضه ضمن شروط قاسية، فيه يستمر سليمان سرد أحداث متواصلة من التاريخ الفلسطيني، ليصل في النهاية حتى الانتفاضة الثانية، ليؤكد من خلال ذلك على استمرار القضية. ومسلسل الخسارات التي تظهر جلية في المشهد الأخير الذي تجلس فيه سيدة عجوز على شرفتها في مدينة رام الله، تنصت لأغنية نجاة الصغيرة أنا بعشق البحر. 1996 أخرج فيه إيليا سليمان سجل اختفاء الذي شكل باكورة أفلامه الروائية الطويلة. 12 عاماً قضاها سليمان في مدينة نيويورك التي وصلها عام 1982 هرباً من جحيم الاحتلال. 2002 أثار فيلمه يد إلهية جدلاً واسعاً بعد رفض ترشيحه لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي. 3 جوائز فاز بها يد إلهية اثنتان في مهرجان كان السينمائي وواحدة في روما. 2009 رشح فيلمه الزمن الباقي لجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي. 4 دول شاركت في إنتاج يد إلهية هي ألمانيا وفلسطين والمغرب وفرنسا. DVD