×
محافظة مكة المكرمة

36 ملياراً استثمارات متوقَّعة في «وعد الشمال»

صورة الخبر

في صنعاء عام 2002 تعرّف جمع من الادباء العرب والاعلاميين الى الروائي الالماني غونتر غراس وأمضوا برفقته أياماً جميلة، أبدى خلالها مودة كبيرة للادباء والمواطنين اليمنيين الذين التقاهم في الساحات والاحياء القديمة التي جال فيها. وكان شديد الحماسة آنذاك حيال قضية الكاتب وجدي الاهدل الذي كان يقبع في السجن جراء كتاب أصدره لم يرض النظام عنه، وأصر على إخراجه من السجن مهدداً بقطع زيارته وفضح القضية عالمياً. ترك غراس في وجدان الادباء العرب انطباعات جمة، جميلة وفريدة، وهم تعرفوا إليه عن كثب ولمسوا فيه سمات التواضع التام الذي لم تؤثر فيه جائزة نوبل. لكنّ اللافت جداً في ذلك اللقاء هو اكتشاف شخص كان في رفقة غراس، بدا قريباً منه كل القرب. وكان غراس كلما وجد نفسه في حلقة من الكتّاب والمثقفين العرب يقدمه اليهم مبتسماً واصفاً إياه بصفات عدة مثل «السكريتير» و «اليد اليمنى» و»المراقب» و»المحرر الخفي»... وفي إحدى الجلسات تحدث عنه بتواضع جم، وقال إن رفيقه هذا هو أول من يقرأ نصوصه أو بالاحرى مسوداتها، وله مطلق الحرية في تصحيحها والحذف منها والعمل عليها مع مشورته بالطبع. حتى الخطب التي يلقيها غراس يضعها أولاً بين يدي هذا «المراقب» ليمرّر قلمه عليها. وقال إن رواياته لا تخرج الى الضوء من دون ان يوافق رفيقه عليها. صدمت صراحة غراس هذه معظم الادباء العرب الذين شاركوا في اللقاء، فهو أصاب منهم النزعة النرجسية في الكتابة والصنيع الادبي والأنا المضخّمة التي لا تسمح للكاتب عادة أن يتنازل عن مرتبته متخلّياً عن أبّهته وخُيلائه. هذه الامثولة، أمثولة غراس، لم أنسها يوماً، بل إنني غالباً ما أتذكرها لا سيما عندما تقع بين يديّ روايات كانت تحتاج حقاً قبل طباعتها الى من يقرأها ويصحح أخطاءها الصرفية والنحوية، ثم يحذف منها صفحات ومقاطع اساءت اليها والى بنيتها وأوقعتها في آفة الاطناب والاطالة والاملال. وقد يتحمل الناشرون مقداراً غير يسير من عبء هذا العيب ، وبعضهم ليسوا سوى «وراقين» لا يهمهم إلا الربح خصوصاً عندما يطبعون الكتب على نفقة اصحابها أو النوادي والجمعيات الادبية. هؤلاء «الوراقون» لا يبالون بما ينشرون اصلاً، فهم لا يقرأون ولا خبرة لهم في تقييم الكتب و»غربلتها». المسألة مسألة طباعة وتسويق، لا أكثر ولا أقل، أما سلامة الكتاب والقارئ لغوياً فلا يولونها اهتماماً. وواضح ان كثرةً من دور النشر العربية تفتقر الى ما يسمّى جهاز التحرير الذي تعتمده الدور العالمية وبعض الدور العربية المرموقة، ومهمة هذا الجهاز تصحيح النصوص وتهذيبها وتشذيبها ومراقبتها لغوياً وأسلوبياً. وهذا الجهاز في الغرب يملك الحق في حذف صفحات يرى انها مكررة أو تسيء للكتاب. هذا «المرض»، مرض الاخطاء والركاكة والحشو، تعانيه اكثر ما تعانيه في العالم العربي، الروايات ثم الموسوعات، ناهيك عن الكتب «العملية». وقد تكون الكتب مهمة جداً في أحيان لكنّ الاخطاء التي تعتورها تسيء اليها كثيراً وتحرمها فرصة النجاح. بعض الكتب يشعر قارئها الحصيف، وحتى غير الحصيف، انها لم تخضع لأي نوع من التصحيح، حتى الطباعي. وهذ فضيحة كبيرة، تدل على احتقار «الوراقين» لمهنتهم اولاً ثم للكتاب والقراء. قد يكون من حق الكتّاب والمؤلفين غير المتمكنين من اللغة ان يخطئوا فيها. هذه خطيئة تُغتفر في الغرب على سبيل المثال. لكنّ الناشرين هم الذين يقع عليهم وزر الاخطاء إن اهملوها ولم يبالوا بها. وأجهزة التحرير التي تُمنح في الغرب اهتماماً كبيراً، هي التي تحل محل المؤلفين في مهمة التصحيح والكتابة السليمة. قد يرفض بعض الكتّاب العرب - والروائيين بخاصة - ان يتدخل أحد في نصوصهم وأن يُعمل القلم فيها. هذا من حقهم تماماً. العمل الابداعي هو وليد التجربة الشخصية ولا يجوز التدخل فيه من خارج. لكنّ استفحال الركاكة والاخطاء في الكثير من الاعمال الادبية لم يعد يُجيز للكتّاب أولاً والناشرين من ثم ان يغضّوا الطرْف عن هذا الإشكال المتفاقم. الدور العربية العريقة تخطت هذا المأزق، والكتّاب الذين ينشرون لديها هم تفهموا المسألة تماماً. وقد يفاجئك ناشر يطلب من الكاتب ان يقتطع من نصه هنا وان يضيف هنا، والكاتب يوافق من غير تأفف او تردد. هذا الاقتطاع تقوم به في أحيان دور نشر أجنبية عندما تترجم روايات عربية، وقد تخسر بضع روايات احياناً كثيراً من «وزنها» تبعاً للإختصار الذي ترتأيه أجهزة التحرير في هذه الدور. وقد يتمنى قارئ هذه الروايات بالعربية وبترجمتها الاجنبية لو ان الكاتب استبق الناشر الاجنبي في الحذف والاختصار، فهو كان ليخفف عنه عبء الإطالة والإطناب.