في اليوم الأخير لزيارة فلسطين، وقد أتممت أيام التصريح كاملة، (ثلاثون يوماً) قلت سأغادر بعد الفطور، وربما بعد الثانية عشرة ظهراً، كي أتفادى الحر الشديد، وقد أكسب المزيد من الوقت في البلدة (التي ولدت فيها ودفن فيها أبي وأمي اللذان ماتا في 5 أيار- مايو عام 2003 دون أن أراهما، وما زال يعيش فيها إخوتي الثلاثة وشقيقاتي الثلاث وأولادهن/م وبناتهن/م، وأحفاد بعضهم/ن)، والتقطت أختي الكبرى (نعمة) الفرصة وأيقظتني فجراً، بينما كنت نائماً في بيت أخي الأكبر (حسين)، وطلبت أن تحضر الغداء مبكراً، وأسافر بعدها، ووافقت وأنا بين النوم والصحو، وكأني أحلم، وقامت بدعوة الأهل على وجبة الغداء التي لم تترك شيئاً إلا وضعته على المائدة التي قسمتها إلى قسمين لأن العدد كبير. ويا ألله ما أطيب طعام الشقيقات وأحلى لقاءهن! بعد الغداء قال أخي الأصغر (اسماعيل): إن (كونتينر) حاجز الخليل بيت لحم مغلق، والطريق إلى أريحا/ الجسر ستكون مغلقة، لم أجد ما يدفعني للغضب (ربما تمنيت أن يكون كلامه صحيحاً، وألا أذهب) ولكن تأكد أخي الأكبر أن الطريق سالكة، فهو يخشى من التأخير كي لا يكون مبرراً في المستقبل لرفض تصريح جديد، وخرجت من البلدة برفقة أخي الأوسط، يوسف، انطلقنا إلى الخليل الساعة الثالثة عصراً، وقبل الوصول، بدأت السيارة الـ «كيا» الحديثة تتباطأ بالسير، ربما أحست السيارة أني لست مستعجلاً. ظننت أن السيارة تحتاج إلى تصليح ما، فقد تعطلت واضطر أخي إلى إيقافها بجانب أحد بياعي البسطات، ولكني علمت منه في اليوم التالي؛ أن السيارة اشتغلت بشكل عادي، حين عاد لها، وانطلقت بشكل سلس. تجولنا في الخليل، واشترينا بعض الهدايا، وحقيبة إضافية لوضع الهدايا المتناثرة، بخاصة هدايا الشقيقات، من صنع أيديهن من جميد وزبدة وجبنة وخبز بلدي، وإلى سيارات الجسر، وللأسف لم يتأخر السائق «العجوري»، وانطلق بنا، وكانت الساعة بين الخامسة والسادسة مساء. وعلى رغم صعوبة الطرق الالتفافية منها، وخطورة طريق وادي النار وصلنا أريحا بسرعة، فقلت للسائق وقبل الوصول للاستراحة: انزلني هنا، أريد شراء بعض الأغراض، وتركت حقائبي معه، وتمشيت وحدي، دون هدف، وحينما عاد، وجدني لم أشتر شيئاً - وتعللت بالبحث عن التمر الريحاوي، وحملني بسيارته، إلى محل منزو داخل البلدة. وببطء اشتريت ما تيسر من تمر وأفوكادو، وخشيت أن أؤخر الرجل الطيب، فعدت له، وأوصلني إلى الاستراحة. كنت غير مستعجل، ما الذي كان يجري؟؟ قدمٌ تتقدم، قدمان ترجفان، كأنهما تريدان التشبث هناك. لي في الأردن أربعون سنة، إلا سنة واحدة، ولي هنا أسرة وأولاد وبنات وحفيد وذكريات وأصدقاء أحبهم، وفي بلد درست وكتبت وعشت فيه، ومنحني الكثير والقليل، ولي محبون وأصدقاء وأعداء، وأعيش فيه حياة طبيعية، رغم أن حياة طويلة لا تخلو من العناء والسجن والمطاردة والتعب، والفرص والمكاسب أيضاً. هنا بلاد أعيش فيها، وشعب طيب، وشوارع وحارات، وأماكن صارت تعرفني، وتعرف وقع أقدامي، ومزاج جسدي، فهل أنا هنا أم هناك؟ هل روحي تقيم هنا حيث ثلثا عمري، أم تسكن هناك حيث طفولتي والمدارس التي درست فيها، ومسقط رأسي، ولا أقول فقط وطني فهنا وطني أيضاً، وإيماني أن العالم العربي بلد واحد، ومن حق جميع أبنائه التنقل والسكن فيه بكل حرية. إذاً ما الذي سبب الارتباك؟ ولماذا عدت غير فرح وفرحاً؟ لماذا حزنت بعد أن غادرت نهر الأردن إلى الضفة الشرقية؟ كيف أفسر لروحي هذا التيه وهذه الحيرة والارتباك والازدواجية؟ هل كنت زائراً؟ وضيفاً هناك؟ على من؟ على أهلي؟ وفي بلدتي؟ أم هناك في رام الله حيث أصدقائي، ووزارة الثقافة التي دعتني، ووزيرها الشاعر إيهاب بسيسو، ووكيل وزارتها الشاعر والمناضل عبدالناصر صالح، الذي لم يتركني يوماً، دون زيارة، والشاعر الصديق عبدالسلام عطاري مدير المعارض فيها، والكثير الكثير من الأصدقاء، والمعرض (معرض فلسطين الدولي العاشر للكتاب) الذي فتح أبوابه للحرية وللهواء، ونجح في استقطاب المثقفين العرب من شتى الدول. وجاء المعرض حتى بمبدعي غزة، وفلسطينيي العمق الفلسطيني، فجمع ما تفرق، ووحَّد ما تقسم، وقدم نشاطات ثقافية مرافقة، شملت العديد من المبدعين العرب والفلسطينيين (توفيق زياد، سعد الله ونوس، وإميل حبيبي، وغيرهم)، وكانت الكويت ضيف شرف كرس لها العديد من النشاطات والندوات، وتمت استضافة بعض فنانيها ومثقفيها. هل كنت ضيفاً يحل للمرة الأولى في بلاده؟ أم عدت إلى بيتي وبلادي وأسرتي في عمان؟ شرخ أصاب الروح وانقسام الذات على نفسها كان صعباً ووجدت الأسرة بانتظاري وحفيدي الوحيد ينظر لي بعينين غريبتين كأنه يقول لي: لو بقيت هناك لما زعلت، وطافت ذاكرتي بكل أولئك الأطفال الذين رأيتهم أحفاداً وأبناء وأطفالاً ساحرين، وطافت الذاكرة تستحضر تلك اللحظات المدهشة بين الأهل والأصدقاء، وشوارع وأماكن الطفولة والصبا، والآن أنا عدت «للوضع الطبيعي»، فهل كنت مسافراً إلى هناك أم سافرت من هناك؟ اعذروا ارتباكي ولا تظنوا أني متعصب إلى هناك، أو إلى هنا، ففي روحي بَلدان، وربما ثلاثة، ومسقطا حياة، وحقي أن أكون هناك، وأكون هنا، ولست معنياً بتقسيمات سايكس ولا بيكو، ولا اتفاقات أوسلو، هذه البلاد من المتوسط إلى ما شاء الله بلادي، ولكن هنا في الأردن خصوصية، وهناك في فلسطين ذكريات ومسؤولية، وجبال تشبه وجهي، وتضاريس مزروعة في روحي وعقلي، وهواء تعرفه جيناتي التي تركت ذكرياتها على الخلايا وفي الوعي واللاوعي، هذا قدر لا مفر منه، وهو قدر جميل، رغم ألمه، فهنا التراب نفسه، والهواء نفسه، ورام الله وعمان على الخط نفسه. أفهم، وأعرف تاريخ الأسى، أكثر من جرح مفتوح، ولكن أحلم أن تكون هذه الأرض، مساحة للأمل، ومتسعاً للحب، وشمساً واحدة تشرق على معنى الحرية، وطعم البلاد التي فقدناها معاً، وحقها أن نحبها معاً، وأن تجمعنا ولا تفرقنا. * شاعر فلسطيني مقيم في الأردن.