حين تُبْتَلى الأممُ بالجَدَل الفارغ تتعطل، وربما تتخلف، بل ربما يكون ذلك نذير هزيمة وفناء. يحكى أن السلطان العثماني "محمد الفاتح" حين حاصر القسطنطينية، كان مجلس شيوخ المدينة مشغولًا بمناقشة أمور فقهية ولاهوتية لا طائل من ورائها، مثل جنس الملائكة (ذكور أم من إناث)، وحجم إبليس (هل هو كبير بحيث لا يسعه مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة). كانوا يتناقشون في ذلك وأسوار القسطنطينية تُدَكُّ، وجيش "محمد الفاتح" يقتحم الأسوار، والقتال يدور في الشوارع والبيوت. هذا الجدل نراه اليوم في الحياة السياسية المصرية في محاولات البعض لتبرير اشتراكه في تظاهرات الثلاثين من يونيو، ومحاولات البعض شيطنة تلك التظاهرات، وتقريع من اشترك فيها. وغالبية من تحدثوا في الأمر أصابهم داء الجَدَل! (سأرى في التعليقات اتهامات بالكبر والغرور، وبأنني أتهم الآخرين وأبرئ نفسي، وأنني أتهرب من الاعتراف بالخطأ والاعتذار... وغير ذلك من المزايدات التي لا أول لها ولا آخر، والتي نراها في مثل هذه المناسبات كل عام، منذ اندلاع ثورة يناير). والحقيقة أن هذا اليوم (أعني الثلاثين من يونيو) له روايات تاريخية مختلفة من كل الأطراف. أنصار التيار المدني يعتبرون هذا اليوم (نهاية التاريخ)! أي أنهم يسردون لك كل خطايا التيار الإسلامي قبل ذلك التاريخ (وأغلبها صحيح)، ويحكون لك أيضا كل بطولاتهم في مقاومة العسكر منذ يناير 2011 وحتى ظهور ورقة تمرد (وأغلبها صحيح). ثم يتوقف بهم التاريخ عند لحظة الثلاثين من يونيو، فتراهم لا يكملون سرد الرواية، ولا يذكرون مواقفهم بعد ذلك، وأن كثيرا منهم ارتكبوا الخطايا التي ارتكبها الإخوان من موالاة العسكر، وتبرير الدم، والشماتة في القتل والسجن، وتبرير قمع الحريات، وغيرها... ولكن أضعافا مضاعفة، كما أنهم توقفوا عن المقاومة والنقد كما كانوا في عصر الرئيس السابق، أصبحوا ثوريين على المعاش ! أنصار التيار الإسلامي يعتبرون هذا اليوم (بداية التاريخ) ! فيبدأون منذ الثلاثين من يونيو بحساب سائر الناس حساب الملكين على خطايا كثيرة (وأغلبها صحيح)، ويغمضون أعينهم عن كل بلاويهم وخطاياهم قبل ذلك التاريخ المشكل، كما أنهم يبدأون بالفخر بصمودهم في وجه الانقلاب في الشارع وفي المعتقلات بعشرات بل مئات قصص الصمود (وأغلبها صحيح)، ولكنهم يغمضون أعينهم عن صمود غيرهم في مواقع لم يشاركوا فيها قبل الثلاثين من يونيو، أي أنهم بعد أن كانوا إصلاحيين، يلومون الثوريين على اندفاعهم... أصبحوا فجأة ملكيين أكثر من الملك، وثوريين أكثر من الثورة ذاتها ! نحن أمام طرفين... كلاهما له نظرة غير منصفة لهذا الحدث الكبير، ولغيره من الأحداث والأيام التي تثير الجَدَل الفارغ الذي لا يقدم، بل يؤخر. وفي رأيي أن الثلاثين من يونيو يوم كغيره من الأيام، والحكم على الناس يكون من خلال متابعة سلوكهم قبل الثلاثين من يونيو وبعده، أما مسألة افتراض أن هذا اليوم هو اليوم الفاصل في التاريخ، وأن المرء في هذا اليوم إما أنه قد حبط عمله، وإما أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر... فهذا جَدَل عقيم، يلهينا عن المعركة الحقيقية مع أعداءنا الذين اقتحموا أسوار المدينة بالفعل، وها هم يقتلون أبناءنا ويستحيون نساءنا. لا فرق بين من وقف يوم الثلاثين من يونيو في ميدان التحرير أو في ميدان رابعة، المهم: أين كنت قبل ذلك طوال عامين ونصف (أو أكثر)، وأين كنت بعد ذلك طوال ثلاث سنوات (وربما يطول الأمر أكثر) ! هل وقفت مع الحق ضد الظلم دون تحيز سياسي؟ ماذا فعلت حين بدأ الحاكم الجديد بإطلاق الرصاص؟ هل أيدت القتل؟ هل دفعك الخلاف السياسي إلى تبرير انتهاك خصومك؟ هل شاركت في اقتسام المكاسب مع الثورة المضادة؟ ما موقفك الأخلاقي من كل ما حدث من مخالفات (قبل وبعد الثلاثين من يونيو)؟! المعيار المنصف في رأيي هو تقييم الناس حسب امتداد مواقفهم عبر سائر الاختبارات والمواقف التي مرت علينا في ثورة يناير (وما قبلها أيضا). بهذا... سنرى أن كثيرا من الأبطال الذين ظهروا بعد الانقلاب ليسوا أكثر من أبطال من ورق، وبعضهم عليه علامات استفهام كثيرة، وهؤلاء اليوم خنجر في خاصرة الثورة، وما زالوا يقومون بأدوار سيئة تعيق توحيد الجهود للتصدي للعدو المشترك. وبهذا... سنرى كثيرا من الناس خانوا مبادئهم ... بالوقوف مع العسكر بعد أن صدعوا رؤوسنا بهتاف (يسقط حكم العسكر) ! وبهذا... سيكون كثير ممن يهتفون (يسقط حكم العسكر) اليوم... مطالبين بالاعتذار أيضا لأنهم أسكتوا من هتف بذلك الهتاف في أوقات تحالفهم مع العسكر قبل الثلاثين من يونيو. ولو استرسلت أكثر... سأدخل أنا أيضا في جَدَل بيزنطي عقيم، لا أول له ولا آخر، ولا منطق له يمكن أن يستقيم، ولا يستفيد منه أحد سوى الحاكم العسكري الذي سَخَّرَ جميع لجانه الإلكترونية لإبقاء هذه النار مشتعلة، وأشعالها مرة أخرى إن أوشكت على الانطفاء. كونوا كأهل القسطنطينية حين غزاها "محمد الفاتح"، واشغلوا أنفسكم بجَدَل فارغ، وتنافسوا في تسمية اليوم يوم القفا، أو يوم الركوب، أو يوم الخرفان. أو كونوا كجيش الفاتح، وانشغلوا بالعمل، لكي تربحوا المعركة الفاصلة. الخلاصة: يوم الثلاثين من يونيو ليس نهاية التاريخ كما يرى كثير من أنصار التيار المدني، وليس بداية التاريخ كما يرى كثير من أنصار التيار الإسلامي، إنه يوم كغيره، جاءت قبله أيام، وجاءت بعده أيام، ومن أراد الحق... فلينظر في مجمل هذه الأيام، دون أن يحاول إيقاف عجلة التاريخ في لقطة واحدة تعطيه الدلالة التي يريدها هواه. عاشت مصر للمصريين وبالمصريين .. تم نشر هذا المقال في موقع عربي21. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.