يصعب تصنيف روسيا الاتحادية في خانة “الديمقراطيات”، مع أنها غادرت النظام السوفياتي القديم، الذي اتسم بالشمولية والحزب الواحد، وشرعت منذ أزيد من ربع قرن، في إجراء انتخابات عامة، وسمحت بتعددية حزبية وإعلام غير حكومي ومنظمات مجتمع مدني وقوى معارضة ... الأسئلة والشكوك، ما زالت تحيط بكل هذه المظاهر والآليات التي تنتسب شكلاً إلى منظومة “الديمقراطيات الغربية”. ولم تكن الديمقراطية وحقوق الانسان، مدرجة يوماً على جدول أعمال السياسة الخارجية الروسية، فلا نجد نقداً لديكتاتور هنا، أو تغييراً في علاقة موسكو مع أي نظام ديكتاتوري هناك، بالاستناد إلى سجل الأخير في مجال حقوق الإنسان ... على العكس من ذلك، رأينا علاقات الكرملين تزدهر مع أنظمة شمولية وعسكرية و”دول عميقة”، من دون أن تتأثر بممارسات تلك الأنظمة والحكومات بحق شعوبها. ودائماً ما نهضت السياسة الخارجية الروسية على نظرية “عدم التدخل في الشؤون الداخلية” واحترام “السيادة الوطنية” للدول، وعدم جواز تغيير الأنظمة بالقوة، أو تشجيع محاولات تغييرها ... مع أن الممارسات الاستبدادية لبعض الحكومات والأنظمة، شكلت في الماضي، وتشكل الآن، وقد تشكل في المستقبل، تهديداً للأمن والسلم والإقليميين والدوليين، ولم تعد تداعيات تلك الممارسة لتنحصر في الإطار المحلي فحسب، ما استدعى تطوير نظرات جديدة لمفهوم “السيادة” و”عدم التدخل”، لا يُبقي للحاكم الديكتاتور، يداً طليقة ضد شعبه، بذريعة “السيادة” و”عدم التدخل في الشؤون الداخلية”. قبل يومين، وفي كلمة له أمام سفراء روسيا الاتحادية في العالم، استوقفتني عملية الربط التي أجراها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بين تفشي الإرهاب، وما أسماه محاولات خرقاء لنشر الديمقراطية في بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وأظنه هنا أقام “علاقة سببية” بين ظاهرة الإرهاب والديمقراطية، وإن كان حاول تفادي الربط المباشر بين المسألتين، والاكتفاء بالحديث عن “تجارب خرقاء لتصدير الديمقراطية”، تُضعف الأنظمة الحاكمة، وتساعد الإرهابيين على التسلل إلى هذه الدول والمجتمعات. والحقيقة التي يبدو أنها غابت عن زعيم الكرملين، هي أن أحداً في هذا العالم، لم يعد معنياً منذ سنوات، بتصدير الديمقراطية أو العمل على نشرها ... نشطاء حقوق الإنسان والمناضلون في سبيل الديمقراطية في العالم العربي، يعرفون أتم المعرفة، أن الغرب المُتهم بتصدير الديمقراطية، لم يعد معنياً بهذه المسألة، وأنه يفضل الأمن والاستقرار على الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان في بلداننا، وهذا ما شجع كثيرٍ من الحكام العرب، القدامى والجدد، على الذهاب بعيداً في تعطيل مسارات الإصلاح والتحول الديمقراطي، ومصادرة الحقوق والحريات، حتى تلك التي توفرت بقدر متواضع كنتيجة لثورات الربيع وانتفاضاته. وإذا كانت هناك فيما سبق، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001، محاولات لنشر الديمقراطية أو تصديرها في منطقتنا، فقد كانت في مجملها “خجولة” و”انتقائية” وموغلة في “المعايير المزدوجة”...فقد دعم الغرب أنظمة ديكتاتورية لحسابات تتصل بالمال والأعمال والنفط والغاز، وصب جام غضبه على أنظمة ديكتاتورية أيضاً، ولكن “لا خيل عندها تهديها ولا مال”. وقبل ذلك، كانت مسيرة برشلونة للشراكة الأوروبية - المتوسطية تنطلق بين ضفتي المتوسط، دعماً لعملية السلام في المنطقة، ومحاولة للحد من “مواسم الهجرة من الجنوب”، وتدعيماً لمنظومة الحريات وحقوق الانسان في دول جنوب المتوسط ... تلك السياسة التي ستتحول لاحقاً إلى “سياسة الجوار الأوروبي”، من دون أن تنجح أوروبا في تبني أية علاقة “شرطية” بين المساعدات التي تقدمها لحكومات دول الجنوب من جهة، ومسألة الحقوق والحريات والديمقراطية من جهة ثانية، فظلت “السلة السياسية” لعملية برشلونة، ولاحقاً لسياسة الجوار الأوروبي، فارغة. إذاً، لا أحد أخذ على محمل الجد، حكاية “تصدير الديمقراطية”، اللهم إلا إذا كان مطلوباً من الغرب، أن يهب بجيوشه وأساطيله للدفاع عن نظام مبارك أو نظام ابن علي ... وهو الذي أرسل طائراته وجنوده لإسقاط القذافي ودعم محاولات إسقاط الأسد وصدام حسين، من دون أن يكون للأمر صلة من أي نوع، لا بالديمقراطية ولا بمحاولات نشرها وتصديرها، فرائحة النفط من جهة، وأمن إسرائيل من جهة ثانية، هما ما جاء بهذه الغزوات الغربية إلى هذه الدول على وجه الخصوص. الديمقراطية، والمزيد منها، هي الرافعة الكبرى لتجفيف منابع التطرف والإرهاب، وغيابها عن معظم مجتمعاتنا، حتى لا نقول جميعها، هو الذي دفع بعشرات الألوف من أبنائها للالتحاق بالقاعدة وداعش وغيرهما من المنظمات الإرهابية المتطرفة ... إن الاستبداد، واستتباعاً الفساد، هو “شريان الحياة” الرئيس الذي تتغذى عليه، ثقافة التطرف، وتنمو على جذعه، الخلايا والجماعات الإرهابية، سيما أن ترافق ذلك كله، مع فشل تنموي، اقتصادي واجتماعي، يتسبب في خلق جيوش من الفقراء والمهمشين والعاطلين عن العمل. المشكلة في تصريحات بوتين من شقين: الأول؛ أنه يشير إلى ظاهرة “تصدير الديمقراطية” غير الموجودة عملياً ... والثاني؛ أنه يقيم رابطاً ما بين تفشي الإرهاب وانتشار الديمقراطية، لكأنه مُقدّر لشعوب هذه المنطقة، أن تختار بين نظم استبدادية – فاسدة أو فوضى شاملة توفر ملاذاً للإرهاب والتطرف، والمؤسف أن “القيصر” بمرافعته هذه، إنما يعيد انتاج ذات الخطاب الذي تروج له الأنظمة العربية المستبدة، على اختلاف مواقفها ومواقعها في خريطة المحاور والتحالفات التي تتوزع عليها دول المنطقة جميعها. الدستور